وطفة الفرات *
كنتُ في سفرٍ طويل، لا يشبه الطرقات المعتادة، بل أقرب إلى سَفرٍ في الذات.. سَفرٍ على طريقٍ مُنهكٍ لا ترحمه الجغرافيا ولا تخفف من وعورته خرائط القلوب.
كل مَن كان معي.. كان في ذات العربة.. تحت ذات السماء.. يبتلعنا لغبارنفسه.. ويتجرّع مشقة الرحلة ذاتها.
لكن الوجوه كانت مرايا متنافرة، كلٌّ يرى الطريق بعينه ويعيش الرحلة بقلبه.. رأيتُ من يتذمّر كأن الألم وُلد له وحده.. ورأيتُ من يتمارض هرباً من مسؤوليته عن اختياره.. رأيتُ الساخط على كل شيء، كأن الكون تواطأ عليه ليكون ضحية كل شيء.. ورأيتُني أبتسم، ليس لأن الطريق هيّن، بل لأنني اخترتُ أن أكون راضية مستمتعة بالرحلة، لا مستسلمة لها.
وهناك على حافة التأمل تساءلت:
ماذا لو لم يُفرض علينا شيء؟
ماذا لو كنا آلهة أقدارنا؟
ماذا لو وُهبنا رفاهية الاختيار منذ اللحظة الأولى؟
أن نصوغ ملامحنا كما يصوغ النحات وجه العاشق في رخام الذاكرة.
نخلق من أنفسنا ما نشاء.. نرسم ملامحنا. ..نحدد لون بشرتنا وشكل شفاهنا.. قبل أن نُولد، نختار أمهاتنا كما تُختار الأسماء وآباؤنا كما تُختار الأغنيات.
ماذا لو استطعنا أن نرسم خارطة أرواحنا.. ونكتب أسماء الأحباب الذين لن يغيبوا.. ونحذف من الحياة كلمة "فقد" وكأنها خطأٌ لغويّ في معجم الرحمة!
ماذا لو لم يكن فينا حزن ولا ألم ولا شقاء؟ لا يكون وداع.. لاخيانة.. ولا موت ينهي رقصة القلب.
ماذا لو اخترنا طول أعمارنا، ومسار أحزاننا؟ أن نحدد عدد الدموع التي يسمح لها بالنزول، وعدد المرات التي سننكسر فيها وعدد المرات التي سيُرممنا فيها الحب؟ ماذا لو لم يكن فينا صدى لما لا نُحب، ولا تجربة مما لا نُريد، ولا طيف مما لا نتحمّل؟
هل كنا سنفهم ما معنى أن نُشفى؟ أن نبكي حتى ننام؟ أن نُخذل، فننهض من كبوة قلوبنا وتقول: مازلنا نستحق الحب. هل كنا سنقدّر نعمة الأمان، إن لم نَذق طعم الانكسار؟ وهل كنا سنعرف لذّة العطاء، إن لم تُنهِكنا أنانية الحياة في لحظة ما؟
أترانا كنا سنشعر بطعم الوجد لو لم نعرف مرارة الفقد؟ أكنا سنعرف نشوة الشفاء، لو لم ندخل غابة المرض؟ أكنا سنُقدّر النور، لو لم تتبلل عيوننا بالليل؟ وهل سيكون للحب قيمة، لو لم نُختبر بخذلان؟
أيوجِدُنا الوفاء، إن لم يعبرنا بعض الخائنين.. أيصحّ أن تُولد الروح، من دون أن تمرّ بمخاض الألم؟
إنّ في القدر المفروض حكمة لا ندركها حين نُسحق، ولكن نراها جليّة حين نُرمم،
وفي الألم سرٌ لا يعرفه من لم يُعانقه.. وفي المجبورين على الدرب، قوّة لا يمتلكها مَن اختار الطريق ممهّداً مفروشاً بالورود.
الرضا، يا سادة ، ليس في اختيار أقدارنا، بل في أن نُحسن الغوص فيها، أن نُمسك بالمقود وسط العاصفة، أن نُغنّي ونحن نذرف، أن نُحب ونحن نُخذَل، أن نحيا ولو كان فينا موت مؤجل.. فالحرية الحقيقية، ليست أن تختار قدرك، بل أن تختار موقفك منه.
قال دوستويفسكي: "أريد أن أعيش لأرى هل الإنسان قادر على تحمّل حريته؟".
وها أنا أقول: ربما الإنسان لا يتحمل قدره، لا لأنه ضعيف، بل لأنه يجهل سرّه.
الحرية التي نطلبها في اختيار الأقدار، قد تكون سجناً آخر.. لأننا لو اخترنا فقط ما نحب، فمتى سنتعلّم؟
إن المعاناة ليست خطأً في نظام الحياة، بل هي شرط من شروط النضج. والألم ليس ندبةً في الوجود، بل توقيع الله على صفحة الروح.
فيا من سافرتَ معي على ذات الطريق، اختر أن تكون سيد قلبك، لا عبد حظّك.. لا تطلب قدراً سهلاً..بل اطلب روحاً قادرة على النهوض من بين الرماد.. فالنعمة ليست أن تختار ما تعيش، بل أن تعيش ما كُتب لك، وكأنك اخترته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.