أحمد عواد إبراهيم *
(مراثي الغمر المنسية)
يا أسمر.. الأبيض يليق بك
هاجر وحيدا أيها الزرزور.. ألقِ عن كاهلك خطايا لونك الأسمر.. الليلة تنام الجابرية في عينيك للمرة الأخيرة، وفي الصباح ستغسلك لمرة واحدة.. تنوح في صدرك رنة الغياب.. أنت تعرف الطريق إلى غابات الموت المظلمة، ومهما قهقه الليل ستتابع الطريق ماشياً على رؤوس أصابعك حتى لا تفزز الملح الراكد تحت جلدك.أنت عريس الليلة الأسمر.. ستزفك الريح إلى اللا منتهى، ترتشف الضوء، ثم تتحول إلى شامة عذراء على خد الأزرق القاحل.. كأنك ورقة غار تسقط من بين أنامل الآلهة.
هل هذا رحيل البين - بين؟ لا دموع تملأ طاسة الشنينة التي أحتسيتها.. وعلى مقربة منك خليلتك السمراء.. كأن شعرها حب الفلفل؟ (حطيلي صحن برغل وحسوة شنينة.. هذي الشتوية جاتينة.. آجس صدري ينگزني وظايق نفسي يمكني ماخذ برد..) يحترق الثلج في قفصك الصدري فتطير الروح مثل شال أبيض.. أبيض كلياً.. لن يأكل الحمام من خبزك بعد اليوم.. فماذا يأخذ الميت معه؟ حسوة دموع!
مات سكران.. وفي وسعي الآن العبور إلى ضفة السؤال: أمات أم نام؟ وكيف يموت الناس ليلاً.. ألا ينام الموت؟
ركضت (متعربطاً بصاية) أمي التي كانت بدورها تحاول اللحاق بأبي.. كلما اقتربنا من بيت سكران تزداد رائحة الموت، وكأننا نمشي حذوه.. هل يراقبنا.. يضحك علينا؟ يشمت بنا؟ صرخة تشق عصا الطاعة على هذا الليل الخائن المتواطئ مع الموت .. يياااااااابا .. كان صوت إحدى بنات سكران.. التصقت بأمي أكثر فهي قلعتي التي لن تساوم عليَّ سلمى الليالي.. لن تترك الموت يتمضمض بي بعد أن قضم روح سكران، وتركه ممدداً مثل وحشة الصبار.. ولم يتجمد السمن العربي على وجه البرغل.. ولم يغل چيدان الشاي فوق الصوبا ..
يصرخ عبدالله الخلف: "العجيان شجايبكم بهالليلة الغبرا؟".. صوت رجل آخر: "حمود هات هات اللوكس ليجاي..". وآخر يقول لاااااااااا إله إلا الله.. تختلط الأصوات تتجمع ثم تتطشر فوق جسد المجهول الأسود.. فقط بكاء زوجته وبناته يبحث في برد الليل عن أرض بيضاء ممكنة.. أرض تسيل عليها القلوب المذبوحة بسكين الغياب.. ولا تمضغ الإنسان..
الحجة فهيمة بدأت تنعي.. على من يا ترى؟ ليس لسكران شوارب شقر.. ولا على باب السرايا (گبت عباتو).. ولا (تل المخدة نوبتين وسكت خصيمو بجلمتين..).. إنه الموت سيد التداعي.. يزور الأحياء وفي جرابه كل الوجوه التي حصدها.. وكل يبكي على بلواه.. وحصة سكران الوحيدة تلك الدموع المسفوحة على حبال الزمهرير.. والتي تتلألأ على حرف ميم الموت.
لم أستطع النوم تلك الليلة.. تطاردني الهواجس والأسئلة والخوف والقلق.. هل سيدفنونه في الليل؟ سألت أمي: "لا يبني باچر يدفنونو.. الدنيا جنزار ومطر.. ايييييييي الله يرحمك يا سكران.. نام نام انت اشمجعدك للحز".
أنام؟ ومن يحررني من وجه سكران؟ ضحكته وهو يحاول تقليد سعدون جابر.. يل واعدتني ورحت.. نضحك على تعليقات عمي محمود وهو يقول له: "والله مالك شبيه ألا فرج العماري".. يضحك ثم يقول: "اش عليه علواني مثل فرج العماري". يشفط السيكارة.. يرنو في البعيد مثل غريب يبحث عن ماء أحلامه.
احتجبت الشمس هذا الصباح.. حبسها الغيم في زنزانة من سديم.. لتبدو صرخة الوداع الأخير مبللة بظل الغمام.. أخرجوا الجثمان من المغسل.. الله كم يليق بك الأبيض أيها الأسمر الصموت.. ثوب زفافك.. أم حصانك الذي تأخر كثيراً.. واليوم جاء بكامل نصاعته؟ فاحت ريحة الميتين.. يبدو أنهم دلقوا أكثر من حنجور ريحة على الكفن.. لتظل رائحة الرحيل ترفو وجع حيطان الطين.. بينما سجى الجثمان على فرشة في صندوق بيكاب محمد بشير.. ركضت إحدى بناته وارتمت على الجسد وهي تصيح: "ييااااابا.. يياااااابا وين ماخذينك؟". جرها أخوها وهرولت إليها بعض النساء: "وكلي الله.. وكلي الله.. الله يرحمو ادعيلو الله يرحمو".
كنت أنظر إلى زوجته وهي تتساند على ابنها.. وما إن تحرك موكب التشييع حتى صرخت وتداعت مثل جدار هرم في وجه ريح عاتية.. مع السلامة يا سكران.. مع السلامة يا سكران.. هاضت حناجر بقية النساء.. ابتعد كل شيء عن ظله.. ورحت أبحث في السهول عن صوتي، لغتي، عن فسحة صغيرة لا أرى فيها وجه سكران.. ولا أسمع صرخات زوجته وبناته.. حتى الزرازير اليوم نسيت ان تعبر بأسرابها من فوق القرية.. كأنها تفتعل القطيعة مع الأرض.. مع الموت الذي يقف وحيداً بين الأحياء.. مزهواً يتموج كظلال تنسل من خلف ستارة الحياة.. يقود أسراه الى عدم يتقلد الأمكنة.. يدفع الحظوظ بالحظوظ.. رئة العدم التي تتصيد الهواء بشصوص الألم وتبعثر الشهوات..
بعد شهر.. كنت هناك عند القبور بجانب النهر.. الشمس تقول لكل شي أهلاً بك فوق سجادة النور.. القبرَّات تنتظر قيامة الربيع.. يبدو أنني عقدت صلحاً مع هادم اللذات.. سلمتُ على أهل الديار ومضيت أسابق كلبي قصاب إلى الجابرية.. أحد ما يغني خلفي:
يل واعدتني ورحت .. أخافن يختلف وعداك
ما دلني أحد عليك .. عرفتك من صوتك
ما دلني أحد عليك .. عرفتك من صوتك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.