أحمد عواد إبراهيم: مراثي الغمر المنسية.. أثر الخزامى - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الثلاثاء، 18 مارس 2025

أحمد عواد إبراهيم: مراثي الغمر المنسية.. أثر الخزامى

 



أحمد عواد إبراهيم *

كلما مشيت في إثرك.. تنمو الخزامى في روحي.. أترك المدن الموحشة اليابسة التي تعثر فيها القلب لأتبع ظلك.. لا حمامة تحمل مراسيلي إلى الـ"هناك".. الله ما أوجع الـ"هنا".. لقد قتلتني الغربة كثيراً.. ولم تتعب النساء من عدّ ثقوب المسامير في جسدي.

أريد أن أشعل السيجارة العاشرة كي تحج خيول الصبح إلى ضفاف النهر مرة أخرى.. وأنا كما أنا.. (لو نوخت نوق الأرض.. ما ظن بهمي تنهض).. وعلى ذكراه التي تتورد مثل زهرة ختمية.. أكتبه.. والكتابة تشبه تحضير الأرواح.. روحه الآن تطوف دافئة كدم طازج بين بيروت وطاوي والجابرية.. سوف أغمس قلمي في عمره الطري وأحلق في سماء الخيال.. كي يعود بكامل وسامته ضامراً مثل رمح.

أنا لا أهرب إلى الذاكرة.. بل أمارس الهروب فيها باندفاع محموم نحو نهاية تتدفق من بين أصابعي.. ثمة صوت يهمس في أذني بعد كل رحلة عناء.. درويش.. لم تفهم العبرة بعد..

منذ ثلاثة أيام والجابرية تتسربل في ثوب عجاجها.. هو الصيف حيث كل شيء يجوع إلى الظل.. انتهى الحصاد هنا، بينما بيروت تتغلغل كأغنية رطبة أكثر من البكاء في جوف بحار لا يصحو.. خطوة واحدة وسأموت.. وكطائر محطم الجناح هوى على ركام مدينة لا تتعب من استقبال قبلات قتلاها.. ضاع الفتى قبل أن يرد التحية على الصباح.. أراد زمزمة الحلم فقطع كل البراري الخضراء في لحظة تغاوت قليلاً، وأحبته كثيراً.. قبل أشهر.. غنى عبود العلاوي في عرسه.. داخت الجابرية عندما سال الشجن على وجه قمر يحنو على قرية تناور ليلاً، متمادياً في غيه.. (يحادي خذ مراسيلي ومرهم).. بدت القرية مطروبة كلها، ومنتشية مثل باقة قرنفل بيضاء.. بينما النساء يلبسن الربيع كأنهن طالعات من زمن الباروك.. ما من زنبقة إلا ونبتت على صاية أو زبون.. تداخل دم الغزال مع الكحلي المذبوح بالتطريز المذهب.. والهباري العراقية تمنح فسحة سماوية لكل كذلة مريمية..

لكن بيروت.. تلك التي تنثر دمها على صهيل الجهات.. تعِد القلب بالحب، فتمنحه أبعد من موت.. ثم تتلاشى خلف خمار موجة مسافرة.. بيروت مدينة تخون ما لا يخان، وتطفئ الجحيم بالجحيم.


قبل العصر تراكض الرجال والنساء والأطفال إلى حدود القرية الشمالية.. يترقبون وصول القافلة الجنائزية.. انعطف الموكب القادم عن طريق الدرباسية إلى اليمين.. ليسلك الطريق الترابي نحو القرية.. الغبار يتصاعد وراء الموكب وكأنه مارد يريد أن يفتح كوة في السماء.

مات أحمد العمر.. هناك في بيروت، في عرمونها أسلم وصيته لنورسة عنيدة، ومضى كمن يهرب من ضفة الموت إلى ضفة الميلاد.. مات الفتى الخجول كقمر كانون، وترك عروسه تُنشب أحلامها في الريح والعشب اليابس المتوحش.. استقبلت أمه الموكب الجنائزي بهلهولة مشروخة: "يا مرحبا بقليبي.. مرحبا بحمادي".. تلوح بيد واليد الأخرى على فمها تحاول أن تشلع الهلهولة من بين أنياب الفجيعة.. تعالى البكاء والصراخ واللطم.. كأن قلبي رماد.. كل شيء يغادر جلده إلى مملكة الحزن المجنون.. والعالم من حولي يخلع روحه.. 

رحت أتتبع فصول المأساة.. هنا وجه مخموش حتى النزف.. هناك أحاول اللحاق بالاسم الذي تشظى في الفضاء عندما صاحت خالته" "يا حمااااااااااااااد يجمار قلبي".. يا الله ما هذا المد الطعين الذي يُنضج الغيم في كف السموات؟.. صوت عبود العلاوي ينكمش على آخر موال (الليل شما يطول وياك ما ينمل).. تفرَّ أسراب البهجة فتذوي الشلاليح فوق أرض مالحة.. أتابع قراءة كتاب الحزن هذا من نافذة مفتوحة على صحراء العزلة.. لا شيء هنا يفصل لي من المعقول ثوباً يناسب حجم الأسئلة.. لماذا ينتحر الفجر؟

كلّ شيء قد تهيأ.. قبر لقيلولة طويلة.. لجسد غارق في غربة دمه.. ليلة أخيرة لم يطلع لها شمس.. كان الوداع سريعاً، فالأرض تستعيد عافيتها كلما شربت من نبع الشباب.. أما الدموع فكانت مثل نهر يفتش عن مجراه المكسور (أشبيه نايم هالأمير.. أشبيه نايم ما كعد).. من يلملم عن صدر هذا الليل تلك اللطمية القاحلة؟ لا شيء.. أبداً.. لا شيء يشفع للموت كل هذه الرعونة.

في التراب ذاكرة الغيم.. والغيم أحصنة الذين يغادرون.. وحطب ذاكرتي لازال في الجابرية.. أسرد حكاياتها الطاعنة بالفرح.. ودموعها التي بلا أجنحة.. وعيونها الناشفة بالعتمة.

في الصباح كان التعب يتدفق من شرايين القرية.. الكل نام.. أجزم بذلك.. إلا تلك التي راحت هلهولتها تقتفي أثر الراحل.. من قرية طاوي مسقط الرأس وموطن ذوبان القلب.. إلى الجابرية.. ظلال الأمس وشمس العرس.. ثم بيروت واهبة خريف الحزن الطويل.



* كاتب وفنان تشكيلي سوري، صفحته على موقع فيسبوك أحمد عواد ابراهيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.