أحمد عواد إبراهيم: أين أحدب نوتردام؟.. في بيتنا فلول - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الأربعاء، 12 مارس 2025

أحمد عواد إبراهيم: أين أحدب نوتردام؟.. في بيتنا فلول

 


كتب الفنان التشكيلي والمثقف السوري أحمد عواد إبراهيم على صفحته في موقع فيسبوك، مسقطاً - بأسلوب يقترب من السخرية - مكونات متشابكة من معارفه المتراكمة وشخوص ثقافته القرائية على المكان، حيث تعصف برؤاه الذكريات، وحيث مدينته الرقة الكامنة في أعماقه كأغنية فراتية جريحة لا تتوقف عن الهطول. 
* * * * *
(يمر الزمن كالسهم.. أما الفاكهة فتمر كالموز..) 
تيري روجان

الكتابة.. قصاصات الطفولة.. محاولة لتلمس أمكنة عزيزة بأنامل من حبر.. البحث عن أشياء صغيرة.. لا تعني لأحد شيئاً.. محاولة اللحاق بأزمنة لا تفتأ تتطاير.. بينما تجلس أنت كلاعب احتياط في فريق لا يغير لاعباً واحداً ويهزم كل مباراة. 

تغمض عينيك.. أعوام متخمة بالغثيان والخسارات.. تستعين بنظرية الكموم.. تفترض أنك مسافر عبر الزمن.. لايهم من يقطع الآخر.. حتى لو مد آينشتاين "بوزه"، وصار أطول من "كفشه".. 

الرقة.. مامضى فات، والمؤمل غيب.. ولك الساعة التي أنت فيها.. أمي توزع علينا قلقها الوجودي بعدالة قلوب الأمهات.. ترسمه بعينيها خارطة بعمر الزهور، لأيام تعتقد أنها تتمرغ بالوحل.. وذلك بعد أن حط كتاب الرسول رحاله في مكتبة أبي، وتلك مكتبة كان يتزاحم فيها التاريخ والبلاد التي ينكمش فيها البحر والبر.. الأنبياء والسلاطين.. الفلاسفة والذين سلكوا إلى الـ"ما وراء" فوق أحصنة الخيال. 

أبي يقرأ الواقع جيداً.. يعلم أن المعرفة جريمة لكنه مسكنون بها.. تسري مع دمه.. تنمو كل يوم تحت جلده.. تسافر في يقظته ومنامه.. يحمل عقل صياد في محيط يتلاطم منذ فجر الإنسان الأول.. بـ"كيف ولماذا وإلى أين..".. لكن أمي تنظر إلى المكتبة وكأنها وعي الكارثة، وخصوصاً بعد أن قال أبي: ان كتاب الرسول لـ"سعيد حوا".. بمثابة تذكرة ذهاب لمرة واحدة إلى كوكب الذباب الأزرق.. ومن ساعتها أصبحت المكتبة هدفاً استراتيجياً بالنسبة لأمي.. ما الذي تخطط له؟ لا أحد يعلم.. فوقوفها المستمر أمام المكتبة أحياناً.. ونظراتها الحانقة إلى الكتب.. تشي بقرار عند الله علمه.. 

بعد أسبوع بالتمام والكمال بدأنا نفقد بعض الكتب.. فقد اختفى "الريل وحمد" وكذلك "الوسادة الخالية".. مع ثلاثة أعداد من مجلة الفيصل.. غالباً كنا نحمل مسألة فقدان كتاب على محمل الإعارة لأحد الأصدقاء.. بعدها بفترة.. طارت رسائل "ماركس وإنجلز" و"تباً يا أشجار اللوز وأرداق.. (سلام قولاً من رب رحيم).. وهذه كتب ليست ضمن اهتمامات الوالد، فهي كتبنا نحن الشباب، وما يحدث يحط العقل بالكف.. لا نجرؤ على سؤال الوالد.. أمي لا يمكن الاشتباه بها أصلاً بأي موضوع يخص المكتبة.. لا أحد منا أعار كتاباً أو مجلة لصديق، وخصوصاً بعد اختفاء رواية "أحدب نوتردام" التي كنتُ قد بدأت بها..

المشكلة أنه حتى في حواراتنا عن الكتب المفقودة على مسمع من "الحجة"، لا نلاحظ عليها أي انفعال أو توتر.. لاحقاً قال لها أبي: "لونّك دارسة طعجتي أجاثا كريستي".. ولأنه ليس هناك جريمة كاملة.. فقد وقع المحظور عندما اختفت مجلدات العقد الفريد.. وأخضعنا الوالد لجلسة تحقيق.. وتم تشكيل لجنة تقصي حقائق، لنكتشف أن أمي هي التي وراء عمليات الخطف كلها.. وبعد أن اعترفت بأن هدفها كان إخفاء كتاب الرسول، والذي اصلا لم يختطف، وظل (معلصن) في صدر المكتبة.. وتحت الضغط أقرت بما نسب إليها.

شكلنا مجموعة للبحث عن المقابر الجماعية للكتب المخطوفة.. وأسفرت الجهود عن انتشال جثث روايات نجيب محفوظ ومجموعة دواوين شعر ومجموعة من أعداد مجلة العربي.. كانت بقبر جماعي تحت جذع الدالية.. تم تكفينها بكيس أسود وخصفة بطاطا.. وتم اكتشاف مجلدات العقد الفريد مع رسائل ماركس ومؤلفات جبران داخل صرة ملفوفة بكيس وشرشف بلون الـ"جز مز"، وهذه المجموعة كانت مدحوسة دحساً بالنضد، وتم تمويهها جيداً بحيث تبدو وكأنها لحاف.. المجموعة الأخيرة كانت تحت خزان المازوت.. مكفنة بثلاثة أكياس وبساط "مكشم".. وكان من ضمنها كتابي القومية والجبر لأخي إبراهيم..

الكتابة أن تجد نفسك في مهب الريح.. تحلم بمكان تؤرشف فيه هزائمك ولو بدمع مستعار.. الرقة.. الدرب الذي لازال شاهقاً بقلبي.. أمشيه كلما شعرت بالضيق.. الدرب الذي أريد أن لا تتكسر أضلاعي عليه..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.