يمارس الكاتب والفنان التشكيلي والمثقف السوري أحمد عواد إبراهيم طقوسه في الكتابة الساخرة عبر صفحته على موقع فيسبوك، ليعود هذه المرة بالذاكرة إلى تلك الأيام التي كان بها التجنيد الإجباري بمثابة كارثة تقع على العائلة كلها وليس الفرد المجند وحده، إلا أن "عواد" يتناولها من باب الطرفة والدعابة في حكاية مليئة بالمفاجآت والمفارقات، تنتهي بالواقع المعاش اليوم بمختلف ما فيه من مساءات رمادية ونهارات تولد هزيلة ميتة.
* * * * *
البعض يعرف، والبعض سمع أن الخدمة العسكرية منذ عقود كانت تشبه الرحيل إلى المجهول.. كانت القرى والأحياء في المدن تقيم ما يشبه المآتم عندما يتم سحب أحد الشباب إلى العسكرية.. والناس على بساطتها تعتقد آنذاك أن الخدمة في الجيش هو الـ"سفر برلك".. وخصوصاً مع انعدام وسائل التواصل وندرة المواصلات.. أضف إلى ذلك أن المأذونيات كانت بالحسرة.. لذلك كان مجرد حصول العسكري على مأذونية هو عرس كبير عند أهله وقريته وعشيرته وحارته.. وأعتقد بأنه لهذه الأسباب مجتمعة كانت العسكرية والعسكري محور معظم الأغاني التي كانت تتردد في الأعراس والمناسبات .. وأتذكر منها:
(الباص عدا العصر سوقي يطبطوبه .. شباب مثل الورد عالجيش مطلوبه)
ومنها مثلاً:
(أحمد بالعسكرية .. بالعسكرية اجباري
هوا يدزلي الصداره .. وأني ادزلو الهباري)
كان أبي من الجيل الذي خدم البلاد في تلك السنين.. ويبدو أنه مثل الكثير كان يبحث عن "قرنة" مريحة يكمل فيها بقية خدمته.. ولحسن حظه أن خالي كان يؤدي خدمة العلم في الوقت نفسه.. لأن خالي كان يروّج بأن معارفه على مستوى رفيع.. وأنه يفك المشنوق من الحبل.. فهو أبو الفعلات والتركات و"الخوشبوشية" موجودة بينه وبين الضباط، كبيرهم قبل صغيرهم.. لا بل إنه متفضل عليهم ولحم أكتاف أكثرهم من خيره.. ويبدو أن أمي كانت تطلب من أبي أن يستعين بشقيقها حتى يشوف له مكاناً مريحاً وقريباً.. لا بل إنها قالت لأبي: قل لأخي أن يوصي بك الضابط وتكون مأذونياتك حسب ما تريد.. وأخي لن يقصر، وأنت تعرفه.. بعدين إذا لم يستخدم ثقله لخدمتك أنت.. من سيخدم؟ توكل على الله وزوره في قطعته..
تحت الحاح أمي والضغط والتعب في القطعة العسكرية التي كان يخدم فيها أبي، قرر الاستعانة بخالي.. فأخذ مأذونية لمدة 24 ساعة، وسافر إلى المنطقة التي يخدم بها خالي.
يقول: عند البوابة الرئيسة طلبتُ الدخول لزيارة قريب لي، وأعطيتهم الاسم الثلاثي والرتبة.. فلان فلان الفلاني.. وبعد أن دلني العسكري على خيمة الضابط المسؤول توجهت إليها.. وباعتبار أنني عسكري أديت التحية للضابط الذي كان يجلس أمام الخيمة يشرب الشاي ومعه شخص آخر يلبس بيجاما رياضية..
يتابع أبي السرد: فقلت له سيدي أنا قريب المجند فلان وجئت لزيارته لأمر ضروري جداً.. وفعلا الضابط استجاب لطلبي فوراً وصاح: يا عسكري فلان تعال.. لكن أحد لم يأتِ.. وبينما الضابط يكرر أمر الحضور.. لاحظتُ أن برميلاً يتحرك نحونا.. البرميل يتحرك لوحده.. والضابط يكرر: أسرع .. أسرع .. والبرميل يتحرك بسرعة تتزايد وتيرتها مع كل أمر.. حتى اقترب منا البرميل.. فقال الضابط: وقووووووف قف.. فتوقف البرميل.. قال الضابط: اطلع يا وحش.. الحقيقة أنني كنت في غاية الدهشة من تصرف الضابط.. إذ ما دخل البرميل والوحش الذي يتدحرج به بالشخص الذي طلبت زيارته.. لكنني لم أكن أملك حق السؤال، وانتظرت نهاية هذا المشهد الذي انتهى بخروج خال الأولاد من البرميل، وهو بالشورت فقط.. حاولت كتم الضحكة أمام الضابط، وحتى لا أحرج الوحش.. لكن الضحك خبيث.. يتمكن منا إذا وَجَدَنا نحاول ابتلاعه.
أنهيت زيارتي لواسطتي.. وسلمت على قريبي.. وطلبت الإذن للتحدث مع الضابط.. قلت يا سيدي إن المجند فلان تعهد لي بأنه لن "يفركها" بعد اليوم إلى القرية المجاورة.. وأنتم الأب والأخ الكبير لهؤلاء الجنود.. وأتمنى عليك الرأفة به ومسامحته، ووالله إن البرميل قد رضرض جسده.. وفعلاً قال له الضابط بحضوري: هذه المرة كرمال قريبك سوف أعفيك.. لكن إذا كررت فعلتك سوف تنام وتأكل وتشرب بهذا البرميل..
في أول مأذونية لأبي.. سألته أمي: هل ضبّط لك أخي الأمور؟
- إي طبعاً.. لقد قمت بزيارته لكنني وجدته يتدرب..
- أيواااااا معناها رح يضبّط لك الوضع..
- طبعاً بمجرد أن ينال بطولة الجيش بالدحرجة و"الدعكلة" بالبرميل.. وعدني خيراً..
- إي طبعاً.. لقد قمت بزيارته لكنني وجدته يتدرب..
- أيواااااا معناها رح يضبّط لك الوضع..
- طبعاً بمجرد أن ينال بطولة الجيش بالدحرجة و"الدعكلة" بالبرميل.. وعدني خيراً..
أن تحمل قبرك مبكراً وتمضي إلى سأم جديد في حياة تبدو كأنها عميقة، لكنك لم تلتقِ بها.. تمر بها الفصول كعابر سبيل.. تظل مجرد غابة ذابلة من زنابق سوداء.. ووجهك يتطشر، كحبات مطر تضرب زجاج النوافذ.. في مساءات رمادية ونهارات تولد هزيلة ميتة.. تسرد حكاياتك عن قرى ترنحت كثيراً بينما كانت تبتلع ألسنتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.