استطاعت وطفة الفرات في منشور جديد لها على حسابها في "فيسبوك" أن تصنع من لغتها ومفرداتها عالماً إبداعياً نقشت فيه لواعج الحنين من خلال ذكريات سردتها موظِّفة خلايا المكان ورائحة البعد والغربة..
يسعدنا في صحيفة الجسر نشرها من باب التنويع وتقديم المواهب الكتابية المميزة في عالمنا العربي.
* * * * *
جدي الحبيب ، كلما كبرتُ، ازددتُ صغراً أمام ذاكرة بيتك.
كيف لي أن أمحوها من روحي؟ كيف أطفئ ضوء المصباح القديم في زاوية الحوش، ذلك الذي كان يضيء ليالي السمر، حين كان صوتك يرتّل الحكايات كأنك نبيّ المنافي؟
"يا دفو حچایاتك بلیل السوالف
یااااا ولف یاااااعشق یارمي
الشواطي ليش خايف؟"
كيف أنسى يدك وهي تنثر الحُبَّ والحَبَّ للعصافير، وكيف أنسى أمي وهي تقطف أوراق العطرية لتضعها في إبريق الشاي، فتفوح الرائحة في البيت كدعاءٍ مستجاب؟
أنا لم أغادر الرقة، يا جدي، هي من غادرتني.
رحلتْ وتركتْ داخلي مدينةً نصفها أطلال، ونصفها حكاياتٌ لا تموت. كيف أشرح للغرباء معنى أن تستيقظ على صوت الباعة المتجولين ونسيم الفرات يسرّح شعر المدينة؟ كيف أصف لهم أزقتها وهي تتوضأ بماء المطر، وكيف يكون التراب بعد البلل يفوح برائحة الحياة، حتى يخال لنا أننا لم نكن نمشي على الأرض، بل على ذاكرةٍ رطبة من جنّةٍ مفقودة؟
أَتعرِف يا جدي أنني كلما شممت رائحة الجارنك، شعرتُ أنني على عتبة بيتكم؟ كأن يدي الصغيرة مازالت تمتد لتقطف الثمرة قبل أن تنضج، فتنهرني جدتي: "استني عليها، كل شي بوقتو حلو".
واليوم، كبرتُ يا جدي، لكنني مازلتُ أمدُّ يدي لثمارٍ لم تنضج، ومازلتُ أتلقى صفعات الحياة بدلاً من تحذيرات جدتي.
"الحنين وجعٌ شفيف، كجرحٍ يُقبّله الهواء لكنه لا يندمل".
الآن، كل شيء صار بعيداً يا جدي، ليس لأني أعيش في بلادٍ أخرى، بل لأني أعيش في زمنٍ آخر. أحمل داخلي مدينةً لا أحد يراها سواي، أمشي بين الناس وأنا أسمع ضحكاتٍ من الماضي، وأرى ظلالاً لا يراها أحد غيري. أشتاق لشيءٍ لا أستطيع أن أتلمسه، كحلمٍ يتكرر كل ليلة لكنه يذوب مع أول خيطٍ من الفجر.
كلما سرتُ في المدن الغريبة، سمعتُ الفرات يسألني: "ليش بعدتي؟".. وأحاول أن أجيبه، لكن صوتي يضيع بين الأبراج العالية، وبين طرقاتٍ لم تحفظ خطاي كما حفظها شارع المعتز والوادي، ولم تهدهد روحي كما كان يفعل الجسر القديم حين كنتُ أقف عليه وأرقب الغروب بلون الجمر، كأن الشمس تحترق شوقاً للماء.
جدي، أتعرف؟ الوطن لم يكن بيتاً ولا شارعاً فقط، كان يدك التي تُربّت على كتفي، كان "فروتك" التي أغفو فيها، كان مِسكك وبخورك كان مسبحتك وساعة جيبك كان نظارتك وعينيك الممتلئتين بالحكايات، واللتين تذوقت منهما طعم الملح وأنا أقبّلك، كان صوتك المتهدّج وهو يودعني: "حافظچ الله يا أومي… مودعة الله يا حبيبتي…
أريدچ سبعة وترفعين راسنا مثل ما چنتي طول عمرچ…
أريد أمشي بالبلد وأقول: أنا جد الــ….. …….".
جدي، تعرف شي؟
چنت سَبعة ورجعت،
….. بس ما لگيتكْ..
"حيرتني وسافرت
سافرتْ بشراع وعيونك بحر
حيرتني… مرّت سنينك ولا طيفك عُبر
ياااااااا حلاتك… ماني ذوّبني الصبر
وشبَعد بيّة؟
يا ذهب يالما رخص سومه
ياا بو الروح الطرية
مرني نسمة
مرني چلمة شوق
لو نجمة وگمر".
لروحك الرحمة
ولحنيني إليك… عمرٌ بأكمله.
كيف لي أن أمحوها من روحي؟ كيف أطفئ ضوء المصباح القديم في زاوية الحوش، ذلك الذي كان يضيء ليالي السمر، حين كان صوتك يرتّل الحكايات كأنك نبيّ المنافي؟
"يا دفو حچایاتك بلیل السوالف
یااااا ولف یاااااعشق یارمي
الشواطي ليش خايف؟"
كيف أنسى يدك وهي تنثر الحُبَّ والحَبَّ للعصافير، وكيف أنسى أمي وهي تقطف أوراق العطرية لتضعها في إبريق الشاي، فتفوح الرائحة في البيت كدعاءٍ مستجاب؟
أنا لم أغادر الرقة، يا جدي، هي من غادرتني.
رحلتْ وتركتْ داخلي مدينةً نصفها أطلال، ونصفها حكاياتٌ لا تموت. كيف أشرح للغرباء معنى أن تستيقظ على صوت الباعة المتجولين ونسيم الفرات يسرّح شعر المدينة؟ كيف أصف لهم أزقتها وهي تتوضأ بماء المطر، وكيف يكون التراب بعد البلل يفوح برائحة الحياة، حتى يخال لنا أننا لم نكن نمشي على الأرض، بل على ذاكرةٍ رطبة من جنّةٍ مفقودة؟
جدي، أتذكُر شجرة التوت في بيتنا؟.. كنتَ تقول إن جذورها أعمق من أعمارنا، وإنها تعرف أسرارنا أكثر منا. كانت تُظلّل سهراتنا أمام باب الحوش، والجارات يلتففن حول صينية الشاي، تتبادل الأيدي مهارة الطهو، بينما تتكفل الألسنة بنقل أخبار الحارة، ويرجعن إلى بيوتهن بأحاديث ممتلئةٍ بالحب والمكر والطيبة.
ولمّة العيلة تحت شجر الرمان والجارنك؟ وسطول الريحان تعبق في الزوايا، والعشاء الذي يتجدد كلما جاءت إحدى عماتي وأولادها، والنعاس الذي كان يغلبنا ونحن نرفض النوم خشية أن تفوتنا سوالفكم.. سوالفكم التي كانت أوطاناً صغيرة، نغزلها بالكلام ونعلقها فوق قلوبنا، ونحملها في حقائب الغربة كي لا نضيع.. أيامها. كان الحُبّ خُبزاً لا يُشترى.
أَتعرِف يا جدي أنني كلما شممت رائحة الجارنك، شعرتُ أنني على عتبة بيتكم؟ كأن يدي الصغيرة مازالت تمتد لتقطف الثمرة قبل أن تنضج، فتنهرني جدتي: "استني عليها، كل شي بوقتو حلو".
كنتُ أضحك وأنا أنتشي بطعمها الحامض، وأسمع صدى صوتك يأتي من حفنة وثلاثين وجعاً:
"يا بنتي يااومي …الريحان ما يتغرَّگ بالمي
الريحان ينرش تا تفوح ريحته!"
... "يالله تا اشوف مني السبعة اللي تسوي لجدها كاسة چاي مخدّرة؟".
"عفيا جروتي".
"يا بنتي يااومي …الريحان ما يتغرَّگ بالمي
الريحان ينرش تا تفوح ريحته!"
... "يالله تا اشوف مني السبعة اللي تسوي لجدها كاسة چاي مخدّرة؟".
"عفيا جروتي".
واليوم، كبرتُ يا جدي، لكنني مازلتُ أمدُّ يدي لثمارٍ لم تنضج، ومازلتُ أتلقى صفعات الحياة بدلاً من تحذيرات جدتي.
"الحنين وجعٌ شفيف، كجرحٍ يُقبّله الهواء لكنه لا يندمل".
الآن، كل شيء صار بعيداً يا جدي، ليس لأني أعيش في بلادٍ أخرى، بل لأني أعيش في زمنٍ آخر. أحمل داخلي مدينةً لا أحد يراها سواي، أمشي بين الناس وأنا أسمع ضحكاتٍ من الماضي، وأرى ظلالاً لا يراها أحد غيري. أشتاق لشيءٍ لا أستطيع أن أتلمسه، كحلمٍ يتكرر كل ليلة لكنه يذوب مع أول خيطٍ من الفجر.
كلما سرتُ في المدن الغريبة، سمعتُ الفرات يسألني: "ليش بعدتي؟".. وأحاول أن أجيبه، لكن صوتي يضيع بين الأبراج العالية، وبين طرقاتٍ لم تحفظ خطاي كما حفظها شارع المعتز والوادي، ولم تهدهد روحي كما كان يفعل الجسر القديم حين كنتُ أقف عليه وأرقب الغروب بلون الجمر، كأن الشمس تحترق شوقاً للماء.
جدي، أتعرف؟ الوطن لم يكن بيتاً ولا شارعاً فقط، كان يدك التي تُربّت على كتفي، كان "فروتك" التي أغفو فيها، كان مِسكك وبخورك كان مسبحتك وساعة جيبك كان نظارتك وعينيك الممتلئتين بالحكايات، واللتين تذوقت منهما طعم الملح وأنا أقبّلك، كان صوتك المتهدّج وهو يودعني: "حافظچ الله يا أومي… مودعة الله يا حبيبتي…
أريدچ سبعة وترفعين راسنا مثل ما چنتي طول عمرچ…
أريد أمشي بالبلد وأقول: أنا جد الــ….. …….".
لكنني أخاف يا جدي، أخاف أن تمضي بي الغربة حتى أنسى لون الرقة.. أن تصير الذكريات صوراً باهتة في ذاكرةٍ منهكة، أن أبحث عن صوتك ذات يوم ولا أجده، أن أبحث عن رائحة الخبز الطازج ولا أجدها، أن أبحث عن الريحان فأجده قد غرق بدموعه، أن أبحث عني… فلا أجدني.
جدي، تعرف شي؟
چنت سَبعة ورجعت،
….. بس ما لگيتكْ..
"حيرتني وسافرت
سافرتْ بشراع وعيونك بحر
حيرتني… مرّت سنينك ولا طيفك عُبر
ياااااااا حلاتك… ماني ذوّبني الصبر
وشبَعد بيّة؟
يا ذهب يالما رخص سومه
ياا بو الروح الطرية
مرني نسمة
مرني چلمة شوق
لو نجمة وگمر".
لروحك الرحمة
ولحنيني إليك… عمرٌ بأكمله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.