وطفة الفرات *
"أمي
من تضحك
يخَضّر حتى بالصفصاف تين"
أيها العابر في مَضامير الأيام، قفْ هنا، واركع. لأنك واقفٌ على الأرض التي لا تُعادَل بشيء، على العتبة التي تنحني لها السموات، على الضلع الذي استوى عليه عرشُ وجودك. قفْ، لأنك أمام أمك.
الأم يا هذا ليست عيداً يعبر كقافلة تجاربة في سوق المناسبات، ولا زينةً تُرفع ليومٍ ثم تُعاد إلى رفوف النسيان، ليست كائناً زمنياً، ليست لحناً يُعزف في يوم ويُنسى بقية العام. هي النسخة الأرضية من المطلق، وهي المعنى الأول لكل وجود. هي النهر ااذي يحمل سفينتك منذ البدء، والسحابة التي أمطرت عليك ربيعك، وهي الفجر الذي أضاءك يوم كنت ظلاماً في رحمها.
هي وطن لا يحده تقويم، ولا تقتصر سيادته على شهر أو يوم.. هي ذلك الامتداد السرمدي حيث الزمن يصبح عبداً عند قدمها، والمكان يتحول لظلٍ خفيف يركض خلفها..
أتراك رأيتَ نهراً يحتفل بيوم جريانه؟ أو جبلاً يقيم عيداً لصموده؟ أو شمساً تخصص يوماً واحداً للإنارة؟
أما قال ربنا: "ووصّينا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهناً على وهن".. أوَ تعلم ما معنى الوَهَن على وَهَن؟ هو أن تحملك امرأة في عظامها كما يحمل النهرُ صورة القمر، ثم تضعك في الأرض بصرخة، نصفها ألمٌ ونصفها رجاء، ثم تظل تراك تكبر، وتأخذ من عمرها عمراً، ومن صحتها عافية، ومن أيامها ربيعاً، وهي تبتسم.
أيُختزل هذا في يوم؟ أتُهدى الأم وردةً في نهار واحد، فيما أضلاعها كانت قفصاً احتضنك قبل أن ترى النور؟ هي المعجزة التي لا يراها العابرون، ليست فرداً، بل فكرة كونية. هي الجذر الأول لكل شجرةٍ، والوَتر الذي منه نشأت الموسيقى، والطين الذي نُفخ فيه سر الحياة. أما سمعتَ في الأساطير أن الأرض كانت أماً، وأن الأنهار هي حليبها المسكوب، وأن الجبال هي أكتافها؟ إذاً، أماه، كيف اختصروكِ في يومٍ واحد، وأنتِ العمر كلّه؟
ماذا لو قرر البحر ان يكون بحراً ليوم واحد ؟هل يكفي السفن ان تعبره يوم عيده ثم تتيه في اللامكان بقية العام؟ أيرضيكَ ان يضيء القمر ليلة واحدة ثم يتشظى في ظلمة..
إن احتفل بكِ أحد ليومٍ، فذلك لأنه لا يدرك أنكِ كنتِ الشمسَ التي أضاءت أيامه كلّها. أماه، ماذا لو قررتِ أن تصبحي أماً ليوم واحد؟ ماذا لو قلتِ: هذا هو اليوم الوحيد الذي سأحبكم فيه، وبعده ستكونون غرباء؟ كيف سيكون حالهم؟
أماه، يقولون إن العيد هو اليوم الذي يتجلى فيه الفرح، فمتى كنتِ إلا عيداً؟ ألم تكوني الفرحة الأولى التي رافقتني مذ كنت نبضاً غافياً في ظلام رحمك؟ ألم تكوني الأرضَ التي سقطتُ عليها حين تعثرتُ، فكنتِ وسادتي لا حجري؟ أماه، كيف يُهدى النهارُ نوراً، وكيف يُسكب في البحر ماءٌ ليُشكر على مده؟ كيف يُهدى منبعُ الكرم هديةً تُشترى؟
لاتنتظر يوماً يُذكرك بأمك.. اجعل كل لحظة عيداً، فإن كنتَ نسيت فهذا شأنك، أما قلبها فلم ينسَكَ منذ كنتَ نطفةً حتى صرتَ جَذعاً، الأم ليست عيداً، بل هي الآية التي لا يجرؤ الزمن على محوها، والجسر الذي لا ينهدم، والذاكرة التي لا تُنسى. أن تبرّ أمك لا يعني أن تهديها وردةً في مارس، بل أن تكون لها العمر كلّه، كما كانت لك عمراً دون أن تَعُدّ الأيام فالأم حيث تنحني السموات، وتُسبِّح الأزمنة:
"ياام گلب ينگط محنه
وياام سوالف دافيه
وياام دمع يجري ع گلشي
الجنه حدج غافية
يمه مدغوشه النوايب
وبس انتِ نيتچ صافيه"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.