نهر الفرات في الرقة |
كتبت وطفة الفرات في صفحتها على موقع فيسبوك عن الوجع السوري الكبير على مدى 14 عاماً، وجعلت النهر يتحدث ويسأل.. وأي نهر هذا الذي يتحدث، سوى نهر الفرات.. هناك حيث يغسل جراح الرقة ثم يمضي.. تاركاً خلفه الماء والأسئلة.
وطفة الفرات.. اسم مستعار، لكنه يحمل روح الكتابة الواعية والصادقة.
وطفة الفرات.. اسم مستعار، لكنه يحمل روح الكتابة الواعية والصادقة.
* * * * *
يسألني كمن لا ينتظر جواباً: "يا ابنة الماء حين يشحّ، ويا أرملة الغيم حين يجفّ، بالله قولي لي، أي بيت في هذا البلد لم يلبس السواد؟.. أي جدار لم يسمع نواح الثكالى؟.. أي وسادة لم تُبللها دموع الفقد؟".
أنظر إليه، إلى هذا الماء الذي يحمل وجوه الغرقى ولا يحتفظ بها، إلى هذا الذي غسل جراح المدن ولم يستطع أن يغسل ذاكرته.
أُجيبه: "نحن أمة تحفظ أسماء قتلاها أكثر مما تحفظ أسماء ملوكها، نسمي أطفالنا بأسماء اخوتهم الذين قتلوا كأننا نعيد إنتاج الفقد.. كأننا نحاول خداع الموت بالتمويه. نُشيّع صغارنا قبل أن نُعلّمهم تهجئة أسمائهم، ونكتب على جدراننا أسماء الذين لم يعودوا، كي لا تبتلعهم المنافي كما ابتلعتنا".
لم يدرِ بأننا حملنا في صدورنا مقابر لم تُحفَر، وأضرحة لم يُنقش عليها اسم، وأسماء عالقة بين الحضور والغياب.. نحفظ الخرائط لا لنسافر بل لنبحث عن آثار أقدام من اختفوا ولم يعودوا.. نمشي بين الناس كأننا أحياء، نقيم المآتم على وجوهنا ونسميها ابتسامات.. يطرق الحنين أبوابنا على هيئة صمت ثقيل.. كل الجدران هنا مسنودة إلى حزنٍ ما.. في كل زاوية ظلٌ لم يكتمل.. في كل شارع امرأةٌ تَذرع المسافة بين البيت والمقبرة كأنها تمشي إلى ما تبقى منها.. حتى الحجارة يعلوها الصمت، صمتُ من بكى حتى نَضُبت عيناه.
كلنا عرف كيف يصبح الفقد ندبة على جدار الروح، وكيف تمضي بنا الأيام محملين بأشباح لا تغادرنا، بأحاديث مبتورة، ورسائل لم تصل وأغنيات لم تعُد تَعني لنا سوى الغصّة.. كلنا فقدنا، وكلنا ثُكِلنا، ومازلنا نحسن التمثيل أننا بخير.
يا نهر، يا رفيق الراحلين بلا وداع، يا شاهداً على المنافي التي لم تتسع لنا، يا من حمل في تياره قلوباً لم تتحمّل وطأة هذا العالم، هل تُراك ستشهد يوماً على بيتٍ واحدٍ لا يرفع صور موتاه على الحيطان؟ هل سيأتي يومٌ لا تهمس فيه الأرصفة بأسماء الغائبين؟
يا نهر، لو أنني استطعت أن أبوح لك بكل هذا الوجع دفعة واحدة، لكُنتَ تحوّلتَ إلى بحرٍ من المراثي، لامتلأتَ بالأسماء التي لم تجد قبراً، بالأحلام التي لم تجد نافذة، بالأصوات التي تردّدت في الفراغ ثم اختفت.
قال لي ذات يوم أحد الناجين في"كل الأسماء" لسارماغو "النسيان يملأ الفجوات. لكنه لا يمحو الغياب": "وأنتِ، أما زلتِ تنتظرين أحداً؟".. أضحك حتى الدموع، أضحك كما يضحك الذين فقدوا كل شيء، وأجيبه: "أنا ؟ أنا لم أعد أنتظر. لقد أدركت أن المدن التي تموت لا تعود، وأن الذين رحلوا أخذوا معهم ما لا يُستعاد".
يسألني النهر، ووجهه يعكس شحوب الفجر، وهو يحدق في وجهي كما يحدّق الفقد في عين أُمٍّ لم تجد في القبور متسعاً لابنها.. يحدّق فيّ كأنّه يريد أن يسمع اعترافًا تأخّر، أو مرثية لم تكتمل.
يسألني كمن لا ينتظر جواباً: "يا ابنة الماء حين يشحّ، ويا أرملة الغيم حين يجفّ، بالله قولي لي، أي بيت في هذا البلد لم يلبس السواد؟.. أي جدار لم يسمع نواح الثكالى؟.. أي وسادة لم تُبللها دموع الفقد؟".
أنظر إليه، إلى هذا الماء الذي يحمل وجوه الغرقى ولا يحتفظ بها، إلى هذا الذي غسل جراح المدن ولم يستطع أن يغسل ذاكرته.
أُجيبه: "نحن أمة تحفظ أسماء قتلاها أكثر مما تحفظ أسماء ملوكها، نسمي أطفالنا بأسماء اخوتهم الذين قتلوا كأننا نعيد إنتاج الفقد.. كأننا نحاول خداع الموت بالتمويه. نُشيّع صغارنا قبل أن نُعلّمهم تهجئة أسمائهم، ونكتب على جدراننا أسماء الذين لم يعودوا، كي لا تبتلعهم المنافي كما ابتلعتنا".
يضحك النهر، ضحكة فيها من البكاء أكثر مما فيها من الماء، ويردد ساخراً: "وكأن من دفن أخاه يستطيع أن يُلقي حزنه في القبر ذاته. وكأن من مسح الدم عن جدار بيته يستطيع أن يمسحه من قلبه!".
لم يدرِ بأننا حملنا في صدورنا مقابر لم تُحفَر، وأضرحة لم يُنقش عليها اسم، وأسماء عالقة بين الحضور والغياب.. نحفظ الخرائط لا لنسافر بل لنبحث عن آثار أقدام من اختفوا ولم يعودوا.. نمشي بين الناس كأننا أحياء، نقيم المآتم على وجوهنا ونسميها ابتسامات.. يطرق الحنين أبوابنا على هيئة صمت ثقيل.. كل الجدران هنا مسنودة إلى حزنٍ ما.. في كل زاوية ظلٌ لم يكتمل.. في كل شارع امرأةٌ تَذرع المسافة بين البيت والمقبرة كأنها تمشي إلى ما تبقى منها.. حتى الحجارة يعلوها الصمت، صمتُ من بكى حتى نَضُبت عيناه.
كلنا عرف كيف يصبح الفقد ندبة على جدار الروح، وكيف تمضي بنا الأيام محملين بأشباح لا تغادرنا، بأحاديث مبتورة، ورسائل لم تصل وأغنيات لم تعُد تَعني لنا سوى الغصّة.. كلنا فقدنا، وكلنا ثُكِلنا، ومازلنا نحسن التمثيل أننا بخير.
يا نهر، يا رفيق الراحلين بلا وداع، يا شاهداً على المنافي التي لم تتسع لنا، يا من حمل في تياره قلوباً لم تتحمّل وطأة هذا العالم، هل تُراك ستشهد يوماً على بيتٍ واحدٍ لا يرفع صور موتاه على الحيطان؟ هل سيأتي يومٌ لا تهمس فيه الأرصفة بأسماء الغائبين؟
في مدينتنا، كل زقاقٍ ناح كما تنوح امرأة فقدت ابنها بين قوافل المنافي والسجون، كل بابٍ استندت إليه ذاكرةٌ تبحث عن صاحبها، كل شرفة مرّت عليها ريحٌ تحمل في طياتها نشيج من انتظر حتى تحجّرالانتظار في قلبه.. كل مقعد في الحديقة بقي شاغرًا إلا من غبار الغياب.
يا نهر، لو أنني استطعت أن أبوح لك بكل هذا الوجع دفعة واحدة، لكُنتَ تحوّلتَ إلى بحرٍ من المراثي، لامتلأتَ بالأسماء التي لم تجد قبراً، بالأحلام التي لم تجد نافذة، بالأصوات التي تردّدت في الفراغ ثم اختفت.
قال لي ذات يوم أحد الناجين في"كل الأسماء" لسارماغو "النسيان يملأ الفجوات. لكنه لا يمحو الغياب": "وأنتِ، أما زلتِ تنتظرين أحداً؟".. أضحك حتى الدموع، أضحك كما يضحك الذين فقدوا كل شيء، وأجيبه: "أنا ؟ أنا لم أعد أنتظر. لقد أدركت أن المدن التي تموت لا تعود، وأن الذين رحلوا أخذوا معهم ما لا يُستعاد".
ويمضي النهر.. يمضي كما مضى الجميع، ولا يترك خلفه سوى الماء.. والمزيد من الأسئلة.
.
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.