عالم الكتب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي - al-jesr

Last posts أحدث المشاركات

الخميس، 13 مارس 2025

عالم الكتب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي

 



(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) بحث كتبه عبدالرحمن الكواكبي* في موضوع الاستبداد؛ مستعرضاً طبائعه وما ينطوي عليه من سلبيات تؤدي إلى خوف المسْتَبِدّ وإلى استيلاء الجُبْن على رعيّته، إلى جانب انعكاسات الاستبداد على جميع نواحي الحياة الإنسانية، بما فيها الدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والترقّي والتربية والعُمْران. ومن خلال التساؤلات يشرح الكواكبي الاستبداد وصفات المسْتَبِدّ وأعوانه، ويوضح علاقة الاستبداد بالدين والمال والعلم والأخلاق، وهل يمكن أن يتحمل الإنسان ذلك الاستبداد؟ ثم يشرح كيفية الخلاص منه وبدائله.. ونعرض هنا ملخصاً للكتاب: 

1- ما الاستبداد؟ وما صفات المسْتَبِدّ؟

الاستبدادُ لغةً هو غرور المرء برأيه، والتكبر عن قبول النّصيحة، أو الاستقلال في الرّأي وفي الحقوق المشتركة. ويُراد بالاستبداد عند إطلاقِهِ استبداد الحكومات خاصّةً؛ لأنّها أعظم مظاهر أضراره التي جعلتْ الإنسان يزداد شقاءً؛ فهو تَصَرُّف فرد أو مجموعة في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوف، ويستعملون في مقام وصف الرعيّة (المسْتَبَدّ عليهم) كلمات: أسرى، ومُسْتَصغَرين، وبؤساء.

وصِفَة الاستبداد تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولَّى الحكم بالغَلَبة أو الوراثة، وتشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب إذا أصبح غير مسؤول، وتشمل حكومة المجموعة ولو منتخبة؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما يغير نوعه، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد، ويشمل أيضاً حكومة مقسّمة ليس لأحد فيها كل القوى كاملة، وإنما يمتلك جزءٌ منها التشريع ويكون له السلطة على الجزء المسؤول عن التنفيذ. ويمتلك جزءٌ آخر الرقابة ويكون له السلطة على المشرّع والمنفّذ. ويقل الاستبداد كلّما قوي الارتباط بين هذه السلطات الثلاث.

وأشدّ مراتب الاستبداد التي يُتعوَّذ بها من الشّيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، ولنا أنْ نقول إنَّه كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف، خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقَّت المسؤول فعلاً، وكذلك يخفُّ الاستبداد كلّما قلَّ عدد نفوس الرعيّة، وقلَّ الارتباط بالأملاك ورؤوس الأموال حاكماً ورعية، وقلَّ التّفاوت في الثّروات، وكلّما ازداد الشّعب معرفةً.

المسْتَبِدّ يودُّ أنْ تكون رعيّته كالغنم في الطاعة، وكالكلاب في التذلل. ولذلك على الرعيّة أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت غضبت، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أُطْعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام. نعم، على الرعيّة أن تعرف مقامها: هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء: بعدل أو ظلم؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرعيّة العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد وتقف حائلة بينه وبين ظلمه، لتأمن من بطشه.

2- هل هناك علاقة بين الاستبداد والدِّين؟

اجتمعت آراء أكثر العلماء الباحثين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي ناتج من الاستبداد الدِّيني، والبعض يقول: "إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التَّغلب، وأمّهما الرّياسة، أو هما صِنْوان قويّان، بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان"، وهذه الحال هي التي سهَّلت في الأمم الغابرة المنحطَّة ادِّعاء بعض المسْتَبِدّين الألوهية على مراتب مختلفة، حسب استعداد أذهان الرعيّة، حتَّي يُقال: "إنَّه ما من مسْتَبِدّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تُعطِيه مقاماً ذا علاقة مع الله"، ويتَّخذ صحبة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد: تفريق الأمم إلى مذاهب وشِيَع متناحرة تقاوم بعضها بعضاً؛ فتنهار قوَّة الأمّة ويذهب ريحها؛ فيخلو الجوّ للاستبداد ليقوى ويستفحل. وهذه سياسة الإنجليز في المستعمرات، لا يُؤيِّدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم، وقتلهم قوتهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب.

وعلماء الاستبداد جعلوا للفظة العدل معنىً عُرفياً، وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء، حتى أصبحت لفظة العدل لا تدلُّ على غير هذا المعنى، مع أنّ العدل لغةً هو التسوية. فالعدل بين النّاس هو التّسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية: "إن الله يأمر بالعدل"، وكذلك القصاص في آية: "ولكم في القِصاص حياةٌ" فهي ليست المعاقبة بالمثل فقط على ما يقفز في أذهان الذين لا يعرفون للتّساوي موقعاً في الدِّين غير الوقوف بين يدي القضاة. وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم؛ فذكروا حتّى من يأكل ماشياً في الأسواق، ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم، ولعلّ الفقهاء يُعذَرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى، ولكن ما عذرهم في تغيير معنى الآية: "ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟

كذلك ما عُذر الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياهم يقولون: "لا يكون الأمير الأعظم إلا وليّاً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله"، ألا سبحان الله ما أحلمه! نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب، حيثُ أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته"، أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام ومسؤولٌ عن الأمة. وهذه الجملة هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين. فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وشموله، إلى أنَّ المسلم راعٍ على عائلته ومسؤولٌ عنها فقط. كما حرَّفوا معنى الآية: "والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض"، وفسّروها على ولاية الشهادة في القضاء وغير دون الولاية العامة وهي تولّي كافة شؤون المسلمين. وهكذا غيّروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدِّين، وغيّبوا العقول؛ حتى جعلوا النّاس ينسون لغة الاستقلال وعزّة الحريّة، بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمّةٌ نفسها بنفسها من دون سلطانٍ مستبد.

وفي النصرانية واليهودية، علماء الاستبداد حرّفوا الدين لخدمة المسْتَبِدّ. والخلاصة أنّ البِدَع التي شوّهت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كُلُّها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولّد جميعها من غرض واحد هو المراد؛ ألا وهو الاستعباد.

3- هل الاستبداد يحارب العلم؟ ولماذا؟

ما أشبه المسْتَبِدّ في تصرّفه مع رعيّته بالوصيّ الخائن القوي؛ فهو يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافاً قاصرين. فكما أنّه ليس من مصلحة الوصيّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المسْتَبِدّ أن تتنوّر الرعيّة بالعلم؛ فالعلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النّور كشّافاً مبصراً، يولّد في النفوس حرارةً، والمسْتَبِدّ يخاف من هؤلاء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٌ كثيرة كأنّها مكتبات مقفلة.

وكما يبغض المسْتَبِدّ العلمَ ونتائجه، يبغضه أيضاً لذاته؛ لأن للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطان؛ فلا بدَّ للمسْتَبِدّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك لا يحبُّ المسْتَبِدّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يتفوق عليه فكراً؛ فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق، وعلى هذه القاعدة بنى (ابن خلدون) قوله: "فاز الـمُتَمَلِّقون"، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، لذلك تجدهم يمدحون كلِّ من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ.

والعلماء الحكماء - الذين يترعرعون أحياناً تحت ظروف الاستبداد - يسعون جاهدين في تنوير أفكار النّاس. والغالب أنَّ رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم ويحاربونهم؛ فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وهذا هو السبب في أنَّ كلَّ الأنبياء العظام - عليهم الصلاة والسلام -، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء تركوا بلادهم وماتوا غرباء. وينتج مما سبق أنَّ بين الاستبداد والعلم حرباً دائمةً ومقاومة مستمرة: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المسْتَبِدّ في إطفاء نورها. والطرفان يحاولان مع عامة الناس.

4- من هم العوامّ؟ وما أهمية تخويفهم؟

العوامّ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوّة المسْتَبِدّ وغذاؤه اللذان يحيا بهما. يأسرهم فيفرحون لقوّته، ويغتصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيمدحون رِفْعته، ويجعل بعضهم أعداء بعض فيفتخرون بسياسته. وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل بالجثث يعدونه رحيماً. ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه خائفين من التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الشرفاء قاتلهم كأنهم ظلموا وفجروا.

إنَّ العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناتج عن الجهل والغباء؛ فإذا ذهب الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف. والمسْتَبِدّ أشقى الناس؛ لأنه على الدوام مكروه، محاط بالأخطار، غير مطمئن على رئاسته، بل وعلى حياته ساعة من نهار؛ ولأنه لا يرى قطّ أمامه من يطلب منه العلم في ما يجهل؛ لأنَّ الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متيناً، لا بدَّ أن يخشى استبداده وظلمه؛ فيضطرب باله ويتشوش فكره ويختلّ رأيه؛ فلا يهتدي إلى الصواب، وإن اهتدى لا تأتيه الشجاعة على التصريح به قبل استطلاع رأي المسْتَبِدّ؛ فإن رآه لا يرى إلا ما يراه؛ فلا يعارضه ولا يناقشه. وكلُّ مستشارٍ يدَّعي أنَّه لا يخاف فهو كذَّاب. والقول الحقُّ: إنَّ الصدق لا يدخل قصور المستبدين؛ فلا يستفيد المسْتَبِدّ قطُّ من رأي غيره، بل يعيش في ضلال وتردّدٍ وعذابٍ وخوف، وهذا هو انتقام الله منه على استعباده النّاس وقد خلقهم ربهم أحراراً.

إنَّ خوف المسْتَبِدّ من غضب رعيّته أكثر من خوفهم من بطشه؛ لأنَّ خوفه ناتج عن علمه بما يستحقُّه، وخوفهم نتيجة الجهل، وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن وهمهم أنهم مقصرون، وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لُقَيْمات من النّبات وعلى وطنٍ زائل، وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياةٍ تعيسة فقط. فكلما زاد المسْتَبِدّ ظلماً زاد خوفه من رعيّته وحتّى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تنتهي حياة المسْتَبِدّ بالجنون التّام، ويقول أهل النظر: "إنَّ خير ما يُستَدَلُّ به على درجة استبداد الحكومات، هو تغاليها في شنآن الملوك وفخامة القصور"، ونحو ذلك من التمويهات التي يرهب بها المستبدون رعاياهم عوضاً عن العقل، وهذه التمويهات يلجأ إليها المسْتَبِدّ كما يلجأ قليل الشرف للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل الصِّدق للحلف، وقليل المال لزينة اللباس.

5- المسْتَبِدّ الأصغر

الحكومة المسْتَبِدّة تكون طبعاً مسْتَبِدّة في كل فروعها من المسْتَبِدّ الأعظم، إلى الشرطي، إلى المستخدم "الفراش أو الآذن"، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً؛ لأن الأسافل لا يهمّهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غايتهم أن يبرهنوا لمن يخدمونه بأنهم مثله وأنصار لدولته، وبهذا يأمنهم المسْتَبِدّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته.

وكلما كان المسْتَبِدّ حريصاً على الشدة، احتاج إلى زيادة جيش المستبدّين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد من الدقة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً. ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمسْتَبِدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤماً، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه.

بناءً عليه؛ فالمسْتَبِدّ لا يأمن على بابه إلا من يثق أنَّه أظلم منه للناس، والنتيجة أنَّ وزير المسْتَبِدّ هو وزير المسْتَبِدّ، لا وزير الأمّة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المسْتَبِدّ ليضعه في الرقاب بأمر المسْتَبِدّ، لا بأمر الأمة، بل هو لا يقبل تكون الأمة صاحبة أمر؛ لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تعطي القيادة لشخص مثله. إنَّ المرموقين في عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمّة؛ فكلُّ ما يتظاهرون به أحياناً من التذمّر والتألّم يقصدون به غشَّ الأمة المسكينة التي يعلمون أن الاستبداد قد أعماها عن الحق، وغيّر تفكيرها، وانحرف به.

6- ما علاقة الاستبداد بالمال؟

الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن ينتسب لقال: "أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال". إنَّ الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المسْتَبِدّ وأعوانه وعمّاله غصباً، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضاً لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين المنتشرين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية، وحيث المال لا يُجمع إلا بالمشقّة؛ فلا تختار النفوس أن تتعب وهي تعلم أنها عرضة للسلب في أي لحظة.

والحفاظ على المال في عهد الإدارة المسْتَبِدّة أصعب من ربحه في البداية؛ لأنَّ ظهور أثره على صاحبه يجلب أنواع البلاء عليه؛ ولذلك يُضطر الناس في زمن الاستبداد إلى إخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر؛ ولهذا ورد في الأمثال أنَّ حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأنَّ أسعد الناس هو الصعلوك الذي لا يعرف الحكّام ولا يعرفونه.

ومن طبائع الاستبداد أنَّ الأغنياء أعداؤه في الفكر ومعاونوه في الأفعال؛ فالمستبد يذلُّهم فيتوجّعون؛ ويسترضيهم فيحنّون؛ ولهذا يتثبت الذلُّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها، أما الفقراء فيخافهم المسْتَبِدّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة. يقصد بذلك أن يغتصب أيضاً قلوبهم التي لا يملكون غيرها، والفقراء كذلك يخافونه خوف ضعف ونذالة، خوفاً من العقاب؛ فهم لا يجسرون على التفكير في التمرّد أصلاً؛ كأنهم يتوهَّمون أنَّ داخل رؤوسهم جواسيس عليهم.

7- الاستبداد والأخلاق

الأخلاق أثمار بذروها الوراثة، وتربتها التربية، وسُقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة؛ فتفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في رعاية الشجر، وأسير الاستبداد لا نظام في حياته؛ فلا نظام في أخلاقه. قد يصبح غنياً فيكون شجاعاً كريماً، وقد يمسي فقيراً فيكون جباناً خسيساً. وهكذا كلُّ شؤونه لا ترتيب فيها؛ فهو يتبعها بلا هدف، وهكذا يعيش كما تجبره الصُّدف أن يعيش، ومن كانت هذه حاله فكيف يكون له أخلاق؟ وإن وجدتْ أخلاقه في البداية فيصعب أن تظل فيه؛ ولهذا لا تقول الحكمة الحُكمَ على الأسرى بخيرٍ أو شرّ.

أسير الاستبداد يرث شرَّ الصفات، ويتربّى على أسوئها. ولا بدَّ أن يصحبه بعضها طول العمر، ويكفيه مفسدةً لكلِّ الخصال الطبيعية والشرعيّة والاعتيادية اتّصافه بالرّياء اضطراراً حتى يتعوّد عليه ويصير خصلة ثابتة فيه. فيفقد بسببه ثقته بنفسه؛ لأنَّه لا يجد خُلُقاً ثابتاً فيه؛ فلا يمكنه أن يضمن ثباته على أمرٍ من الأمور؛ فيعيش سيئ الظنّ في حقِّ ذاته، متردداً في أعماله، لوّاماً نفسه على إهماله شؤونه، شاعراً بضعف همَّته ونقص شهامته. ويبقى طول عمره جاهلاً سبب هذا الخلل في شخصيته؛ فيتَّهم الخالق، ويتَّهم تارةً دينه، وتارةً تربيته، وتارةً زمانه، وتارةً قومه، والحقيقة بعيدة عن كلِّ ذلك، وما الحقيقة غير أنّه خُلق حرّاً فاختار الأسر.

8- صفات الأحرار

الحرّ أمينٌ على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عنه بكلِّ قوتها في سكنه وسفره، بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه؛ فهي تحيط به إحاطة الهواء، لا إحاطة السور يتخبّط فيه كيفما التفت أو مشى. وهو أمينٌ على الملذَّات الجسمية والفكرية المتعلِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية؛ حتى يرى أنَّ الطرقات المسهلة والتزيينات والمتنزهات والمنتديات والمدارس والمجامع ونحو ذلك، قد وُجِدت كلُّها لأجل ملذّاته، ويعد مشاركة الناس له فيها لأجل إحسانه؛ فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادةً.

وهو كذلك أمينٌ على الحرّية، كأنَّه خُلِق وحده على سطح هذه الأرض؛ فلا يعارضه معارض فيما يخصُّ شخصه من دينٍ وفكرٍ وعملٍ وأمل، أمينٌ على النفوذ كأنَّه سلطانٌ عزيز؛ فلا معارض له في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها، أمينٌ على العدل كأنَّه الممسك على ميزان الحقوق؛ فلا يخاف تطفيفاً، وهو الذي يحدد الأسعار فلا يحذر بخساً، وهو المطمئن على أنَّه إذا استحقَّ أن يكون ملكاً صار ملكاً، وإذا أجرم جُرماً نال جزاءه لا محالة.


9- قواعد مقاومة الاستبداد

القاعدة الأولى: الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة. إنَّ الأمَّة إذا اعتادت الذل، تصير كالبهائم أو أقل من البهائم، لا تسأل عن الحرية ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير طاعة المستبد، وقد تغضب على المسْتَبِدّ نادراً، ولكن طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد؛ فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمَغَصٍ بصُداع.

وقد تقاوم المسْتَبِدّ بسَوْق مسْتَبِدّ آخر ترى فيه أنَّه أقوى شوكةً من المسْتَبِدّ الأول؛ فلا تستفيد أيضاً شيئاً، إنما تستبدل مرضاً مُزمناً بمرض حديث، وربما تُنال الحرية مصادفة فلا تستفيد منها شيئاً لأنَّها لا تعرف طعمها؛ فلا تهتمُّ بحفظها ولا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي استبدادٍ مشوَّش أشدُّ وطأةً كالمريض إذا انتكس؛ ولهذا قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل عليها نتيجة ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة - غالباً - تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها؛ فلا تلبث أن تَنْبُت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً.

القاعدة الثانية: الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة، إنما يُقاوم باللين، فالوسيلة الوحيدة الفعّالة للقضاء على الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يأتي إلا بالتعليم. ثمَّ إنَّ اقتناع الفكر العام ورضاه بغير ما اعتاد عليه، لا يتأتَّى إلا في زمنٍ طويل.

والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تنتج فتنة تحصد الناس حصداً. نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً؛ فإذا كان في الأمَّة عقلاء يبتعدون عنها من البداية، حتى إذا سكنتْ ثورتها وقَضَتْ وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة.

القاعدة الثالثة: يجب تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد قبل مقاومة الاستبداد؛ فمعرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئاً إذا لم يُعرف الطريق الموصل إليها. والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقاً، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعييناً واضحاً موافقاً لرأيِّ الكلِّ أو الأكثرية؛ فإذا كانت الغاية مُبْهمة شيئاً ما يكون الإقدام ناقصاً شيئاً ما، وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم؛ فهؤلاء ينضمّون إلى المسْتَبِدّ فتكون فتنةً طاحنة ويكون حينئذٍ الانتصار في جانب المسْتَبِدّ.


* هو عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي (1855 - 1902 م) أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. كما يُعدّ فقيهاً حنفياً، مفسر ولي الإفتاء بحلب في المدرسة الخسروية المشروطة لمفتي حلب.
- عن موقع 
https://engzketab.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.