قالوا إنك لشاعر أو لساحر أو لمجنون وما الكلام الذي تقوله هذا إلا أساطير الأولين.. كيف يكون محمد، صلى الله عليه وسلم، شاعراً وقد لبث فيهم سنوات لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يظهر عليه كلام مثل كلام الشعراء أو الفصحاء من العرب؟
قال تعالى "قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرࣰا مِّن قَبۡلِهِ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ". وقال أيضاً "وَمَا هُوَ بِقَوۡلِ شَاعِرࣲۚ قَلِیلࣰا مَّا تُؤۡمِنُونَ".
وكيف يكون ساحراً ولم يسحر جميع قومه، خصوصاً من اتهموه بسحر؟ لمَ تركهم من دون سحر؟ وأيضاً عاش فيهم دهراً ولم يُعرف بالسحر. وهذه التهمة تحديداً أهم بها كثير من الرسل كموسى مثلاً.
قال تعالى "كَذَ لِكَ مَاۤ أَتَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا۟ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ". وكيف يكون محمد مجنوناً؟ ومع ذلك صادق أمين على خلق عظيم؟ أيمكن للجنون أن يجتمع مع صفتي الأمانة والصدق.. كيف؟
إن كنت مجنوناً فكيف أفرق بين الصدق والكذب؟ كيف أفرق بين الأمانة والغدر؟
قال تعالى "مَاۤ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونࣲ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَیۡرَ مَمۡنُونࣲ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ (4)"
الآن ما محمد بشاعر ولا ساحر ولا مجنون.. إذن ألغوا في ما يقول.. قال تعالى "وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَسۡمَعُوا۟ لِهَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡا۟ فِیهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ".
لم ينفع اللغو فتحدوه قائلين: استبدل هذا القرآن بغيره إن كنت صادقاً.. فكيف يستبدله؟.. أهو من عنده كي يستبدله؟
قال تعالى "وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِمۡ ءَایَاتُنَا بَیِّنَـٰتࣲ قَالَ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَیۡرِ هَـٰذَاۤ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَاۤىِٕ نَفۡسِیۤۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۖ إِنِّیۤ أَخَافُ إِنۡ عَصَیۡتُ رَبِّی عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ".
لما يرفض إنسان نسب الكمال لنفسه.. البعض منّا يُحب أن يُمدح؛ فينسب لنفسه ما لغيره.. فلماذا يرفض محمد (ص) أن يقول على ما ينطق إنه من عنده؟ إذن هذا كلام منزّل من الله فعلاً؛ لا كلام محمد.
فختموا إنكارهم بأن لو أُنزل هذا القرآن على رجل غير محمد من الطائف أو مكة عظيم المال والسلطان؛ لاتبعناه قال تعالى "وَقَالُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ عَلَىٰ رَجُلࣲ مِّنَ ٱلۡقَرۡیَتَیۡنِ عَظِیم".
إذن العلة ليست في القرآن نفسه بل في البشر المبعوث بالقرآن ..
استشهدت في مقدمة مقالي بكثير من آيات القرآن، ما القرآن إذن؟
وإن كان اسمه قرآناً لما يسمى بغير ذلك الاسم؟ أهو قرآن أم فرقان أما كتاب الله أم كلامه -عز وجل-؟
للقرآن أسماء شتى تفوق الـ50 اسماً لا يسع هذا الفن من الكتابة للحديث عنهم لذا؛ سأكتفي بالثلاثة أسماء الأشهر (قرآن/ فرقان/ كتاب) وسأترك لفظ "كلام الله" لك تفصّله معي في خاتمة مقالي ..
ما القرآن؟ القرآن لغ: مصدر من قرأ يُقال "قرأ قرآناً" كما يُقال "غفر غفراناً".. والفعل قرأ في أصله يعنى الجمع والضم، يُقال "قرأت الماء في الحوض" أي جمعته فيه.
ويًقال أيضاً "ما قَرأَتْ هذه الناقةُ سَلىً قَطُّ" أي ما ضمت في رحمها جنيناً قط، بجانب طبعاً الدلالة الأشهر للفعل قرأ، قرأ قراءة أي تتبع الكلمات نظراً أو نطقاً.
إذن قرآن لغة مصدر من قرأ، ومن معاني قرأ الجمع والضم.
القرآن اصطلاحاً، وبعدما بُعث المصطفى (ص) رسولاً، أضحى للفظ القرآن معنى اصطلاحي وهو أنه علم للكمية الكلامية النازلة على محمد (ص) من الله بغرض الإعجاز والتحدي.
هذا هو القرآن، وابتدأت به؛ لأنه علم يطلق على ما أنزله الله على محمد (ص) ولا يطلق على غيره من الكتب السماوية كما الفرقان وكتاب الله .
لمَ نقل كتاب الله؟ كتاب اسم مفرد جمعه كتب، وفعله كتب ويعني خطَّ الكلام بالقلم ودونه، ويعني أيضاً الجمع والضم لذا؛ يسمى الكتاب كتاباً؛ لأن فيه يجتمع الحرف مع الحرف فتصير كلمة، والكلمة مع الكلمة فتصير جملة والجملة مع الجملة فتصير صفحة حتى ينتهي إلى كتاب. ويُقال "تكتب الناس" أي تجمعوا، وأزيدك من الشعر بيتاً، يُقال على تجمع الجنود في الجيش "كتيبة" أي تجمع من العساكر.
إذن لفظ كتاب يشترك مع لفظ قرآن في معنى الجمع والضم، فلما لا نكتفي بواحد منهما دون غيره؟ إذا لاحظت القراءة فهذا قرآن ويستلزم هذا القرآن حفظاً في الصدور، وإذا لاحظت الكتابة فهذا كتاب، ويستلزم هذا الكتاب كتابة في السطور .
نأتي إلى اسم الفرقان.. الفرقان: مصدر من فرق ويعني الفصل بين الشيئين، قال تعالى "یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّكُمۡ فُرۡقَانࣰا".. أي فصل بين الحق والباطل، وسمي القرآن فرقاناً لأنه يفرق ويفصل بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. وأطلق لفظ الفرقان على كتب أو مناهج سماوية أخرى غير القرآن كما في قوله "وَإِذۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ"
"وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِیَاۤءࣰ وَذِكۡرࣰا لِّلۡمُتَّقِینَ"، وأُطلق لفظ الفرقان على القرآن كما في قوله "تَبَارَكَ ٱلَّذِی نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِیَكُونَ لِلۡعَـٰلَمِینَ نَذِیرًا"، وفي قوله أيضاً "شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ".
كلام الله
لاحظ معي أن لفظتا القرآن والكتاب يتحدان في معنى الجمع والضم، أمّا لفظ الفرقان فاختلف عنهما ودلّ على الفصل والتفريق.. لمَ هذا؟
نعرف أسماء لله كثيرة، منها مثلاً الأول والآخر، الظاهر والباطن، المحيي والمميت، القابض والباسط.. وهذا ليس تناقضاً حاشاه، ولكن للشمول والإحاطة والعظمة والعلو؛ فلو كان الله يحيى وغيره يميت، أو لو كان الله يبسط مثلاً وغيره يقبض! كيف بك أن ترضي إلهين؟ تفسد الأرض والحياة حتماً، فسبحان الله عما يصفون.
قال تعالى "لَوۡ كَانَ فِیهِمَاۤ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا یَصِفُونَ"... نرجع لصفات الله (الخافض والرافع) مثلاً وذكرتُ أن هذا ليس تناقضا -تعالى الله- بل إحاطة وعلو وعظمة ..
والقرآن كذلك يعني الجمع والضم والتفريق أيضاً كما أسلفت لك، فيه نفس الشمول والإحاطة والعلو، لاحظ أن معاني أسماء القرآن تتشابه مع معاني أسماء الله في وجود المعنى وضده، إذن هو كلامه مادام يتشابه مع صفاته، وليس بمخلوق.. وإلى هنا تنتهي النبضة الإيمانية هذه.
* كاتب مصري، طالب بكلية الألسن، القسم الألماني.. له مدونة باسم "كاتب بيفك الخط".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.