مصطفى معروفي *
كم من مرة حدثتني نفسي بالكتابة في هذا الموضوع، ودائماً ما كنت ـ لسبب ما ـ أرجئ ذلك إلى وقت آخر مقبل.
يرى البعض أن الشعر لا بد أن يكون له معنى، وأن الشاعر لا يكتب القصيدة إلا لغرض من الأغراض، وهذا الأمر في نظري معقول إلى حد كبير، لكن المشكل كما يبدو لي ليس ها هنا، وإنما في إمكانية البحث عن هذا المعنى والقبض عليه، أقصد المعنى الذي يريده الشاعر ومن أجله كتب القصيدة.
إننا ونحن في مواجهة مع نص شعري ما غالباً ما نفتقر إلى الدليل القاطع والبرهان الذي يستقيم على مقصديته، فالشاعر قال ما قال، وترك النص أمامنا كما هو، نقرؤه حسب تذوقنا له، وحسب المنهج الذي سنتبعه في استكناهه وسبر أغواره.. بيد أننا في الواقع لا نملك ضمانات حاسمة في أن نصل إلى ما يتغياه الشاعر صاحبه منه بكل دقة.
إن الشاعر ـ وأجدني أتحفظ على تصرف الشاعر هنا ـ حتى ولو أمدنا بتصريح أو بتصاريح حول عمله الشعري لا يجدر بنا أن نقف عند كل ما يدلي به موقفاً ثابتاً لا نتزحزح عنه، فالشاعر يقول وفي نفسه ما في نفسه من رؤى وتصورات ومشاعر وأحاسيس هي من حيث الكثرة ومن حيث الحدة لا يمكنه حصرها وتسجيلها من دون زيادة ولا نقصان، فكم من شاعر أراد تحقيق مشروع ما في قصيدته، لكنه برغم كل ما بذله من جهد نجده لم يحقق كل ما كان يتغياه ويأمله منها أو نجده قد زاغ عن الطريق الذي يؤدي به إلى تحقيق ذلك وسلك طريقا آخر ـ عن قصد أو غير قصد ـ مما تولد عنه في العمل الشعري مشروع أو مشاريع كان الشاعر يجهلها تماماً في بادئ الأمر ولا يعلم عنها شيئاً.
والحقيقة أن العمل الشعري قد يتضمن معنى أو معاني لم تخطر بذهن صاحبه، فلو أخذنا مثلاً معلقة امرئ القيس وأخذنا جميع القراءات التي أنجزت عنها قديماً وحديثاً، والاستنتاجات التي خرج بها النقاد منها، ثم أطلعنا عليها الشاعر امرأ القيس نفسه لأصيب بالاندهاش، إذ إنه سيقرأ أشياء عن قصيدته لم تكن تخطر بباله إبان قرضها، وسواء قبل تلك الاستنتاجات أم لم يقبلها فهي جاءت متضمنة في ثنايا القصيدة، ومنطق الاستقراء ومعطى اللغة معاً يفرضانها.
بالنسبة لي فأنا مع قراءة الشعر قراءة مفتوحة، قراءة لا نهائية، ترى الشعر لا يخاطب حقبة معينة من الزمن، وإنما يخاطب الزمن في تواليه، ومن حق كل حقبة فيه أن تقرأه بما تراه يتوافق مع تطورها وتقدمها ودرجة النضج والحس الفنيين لديها.
ويبدو لي أن حصر الشعر في معنى ومقصد معينين هو تعسف في حق الشعر، ووضع العراقيل أمامه كي لا يتقدم ويخاطب المراحل الآتية من الزمن، وهذا تصور فاسد للشعر ومناف لطبيعته التي تميل إلى الانفتاح ولا تتحمل الحصر والقسر.
نخرج من هذا إلى أن معنى الشعر مبني على الشعر نفسه، أقصد على النص الشعري لا على الشاعر ولا على الملابسات التي تمخض فيها، ولا على حتى أولئك الذي حضروا ولادته، إذ الأمر هنا يتعلق بعموم ما يريد النص أن يفصح عنه ويبلغه للقارئ، لا بالحيثيات والملابسات التي كانت سببا في وجوده.
مرة قال لي أحد الأغبياء:
ـ لا أفهم شعرك، بل أفهم فقط ملحقها الذي تسميه (مسك الختام).
هذا القارئ يريد الجاهز فقط، أما أن يُعمِلَ فهمه ويتعب في قراءة النص لكي يستخرج منه شيئاً فذاك مما لا يستسيغه، وكنت أود أن أوجه إليه نصيحة لوجه الله وهي أن يعرف ما هو الشعر أولاً ثم يقوم بقراءته ثانياً.. لكنني أحجمت عن ذلك لداع أخلاقي بحت لا غير.
* شاعر مغربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.