الكاتب حسين الجداونة |
عبد الإله فارس*
النص: إحساس
رآها منهمكة على غير عادتها...
ـ ماذا تفعلين أيتها العجوز؟
ـ جارتي نفساء.. فتحت لها علبة سردين...
أنجبت خمسة أطفال كالرياحين…
***
هي عمليّةُ إخصابٍ خارجَ الرّحم؛ نجمَ عنها ولادة -على الأغلب- قيصرية؛ نصٌ يخترقُ بأدواته دائرةَ الغموضِ الشّفيف، وما الغموضُ كمّا عرّفه النفسيّون إلا إخفاءٌ للإحساس، فبينَ محضِ إحساسٍ نكرة، وبين "رؤيا" تبحثُ عن تأويل؛ يولد الغموضُ الذي ينتظرُ من يرعاهُ في هذا النّصّ..
حدثٌ مخيفٌ يعترضُ الحياةَ كلّ يوم، يقدّمه النصّ في تقنيةِ حِوار يُمسكُ بتلابيبِ القارئ ويزجُّ به في خِضمّ أحاسيس النصّ، فيورطُه في حوارٍ مُتذمرٍ مع الماضي العجوزِ الفقيرِ المتمسّكِ بقيمه، ثم يتركُه في موضعِ صاحبِ الرؤيا الجدليّة الباحثةِ عن التأويل.. وحاضرٌ مريضٌ مُغتصَبٌ يعاني ويتمرّضُ على ما يفتحُ به عليه ماضيه؛ ويأملُ في إنقاذ مستقبلٍ غضّ حالمٍ كالرّياحين..
نسمعُ في النصّ دويّاً يصدرُ من إيقاعٍ لفظيّ معبّرٍ عن الانحدار نحو الأسفل (تفعلين.. سردين /كالرياحين) بقافيةِ الياء الخافضةِ والنّونِ العميقةِ الغارقة، فالسّردين في النّصّ مثلما هو طعامُ الفقراءِ والقطط، فإنّه يمثلُ الملاذَ والنّجاة، وعُلبتُه التي فُتِحت، مثلما هي التابوتُ السّائرُ في اليمّ هرباً من الموت نحو النّجاة، فإنّها اللحدُ الذي يضمّ الموت.. فأيُّ المَصيرينِ هو الذي ينتظرُ خمسَ ريحاناتٍ سيأكُلنَ سمكاتٍ عجافٍ، آو سيأكلهُنّ الفقرُ المُتمثّل في علبةِ السّردين..؟!
مشهدٌ خرجَ من السّرد في الجملة الافتتاحيّة، إلى مسرحِ الحياة الواقعيّة، في حوار يدور حول "رؤية" بصريّة لشخصيّة مجهولةٍ في النّصّ.. تُعبّرُ عن رُؤًى كثيرةٍ بعدد مَنْ سَيجلسونَ في صُفوفِ المسرحِ الأماميّةِ أو الخلفيّة، أو هناك حيث جلستُ أنا منه في الشّرفة..
نصّ يضعُ ركائزه على صيغٍ فعليّة، تَقنيَةُ الزّمانِ النّابضِ فيها تتأرجحُ حسبَ قوّةِ الحدث؛ فالحاضرُ مندفعٌ مستنكرٌ للفعل الذي يجب ألا يُستنكر (ماذا تفعلين)، بينما الفعل الماضي عَبّر عن أفعالٍ في غاية القوّة، ولكنّ النصّ سلبها قوّتها، فبدتْ كأنّها أحداثٌ إيجابيّةٌ مُفرحة تَستدرُ الأحاسيس، (رآها منهمكة / فتحتُ لها.. / أنجبت..).
ثم تأمل ذلك الوميضَ الزمانيّ المضطربَ في توظيف "الحال" (منهمكة) التي تتبعُ الفعلَ الماضي (رآها) في بِنيتها "الإسميّة" الدّالة على ثبات العادة عند العجوز في قيمها وأصولها السّالفة، رغم أن من يراقبها ويحيا الحاضرَ معها ظنّ صَنيعها مُحدثا على غيرِ عادة.. ولو كان الصنيعُ محدثا مُستنكَرا لكانَ من بابِ أولى أن (رآها تنهمك..) فتكون "الحال" فعليّةً متغيّرةً لا اسميّة ثابتة؛ لكنّهُ الحاضرُ العاجزُ عن رؤيةِ ما يمتلكه الماضي من قوّة، وإنه الإيمانُ بعجزِ الماضي الذي صارَ ضعيفاً مستفزاً عن معالجةِ الحاضرِ الذي يُصرّ على الحياةِ والتّكاثرِ الغرائزيّ الأهوج، وهو بالتّالي ماضٍ عاجزٌ عن حمايةِ مستقبلٍ تراه العجوزُ جميلاً ويراه هو مخيفاً..
نصٌ امتلكَ هندسةً لغويّةً مكّنتهُ مِن تحقيقِ الإثارةِ القَصصيّةِ، فكانَ مُتنوعاً في قوالبهِ اللغويّة، ضابطاً لإيقاعَيهِ الدّاخليّ والخارجيّ، مُسيطراً على تِقنيّتيّ الخِطابِ والزّمان، قادراً باحتكامٍ على إدارةِ الصراع فيه..
* كاتب أردني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.