أحمد حمزة |
أحمد حمزة *
《السوق القديم والإمام، سيدة عاشا، سيدة عاشا》
تبدأ الرحلة بهذه النداءات من سائقي (الترمكو) في منطقة المنيب، تحديداً في فجر الجمعة، سرعان ما ألبي النداء وأصعد إلى العربة، ذات درجتين كالسلم، في انتظار اكتمالها بالركاب، وأخذتُ أراقب اجتنابهم الجلوس في المقعد الأخير من (الترمكو)؛ لشدة ضيقه.
لاحظت تأفف أحدهم عندما صعد، ولم يجد غير هذا المقعد فارغاً.. وانطلقت (الترمكو) لبدء الرحلة إلى عالم صغير، مليء بآلاف التفاصيل...
سوق الجمعة أحد أكبر وأقدم الأسواق في مصر، ممتد من سور حديقة الفسطاط الخلفي مروراً بميدان السيدة (عائشة) ومسجد الإمام الشافعي، ومنتهياً إلى كوبري التونسي.
في ظهر حديقة الفسطاط بعد نزول (الترمكو) من الكوبري الحديدي يكاد لا يرتد إليّ طرفي؛ منبهراً بما أراه من أعمال صُنعت من الجبس والرخام والجرانيت، منها ما شكُل على هيئة حيوانات؛ جمال، خيول، ونمور.. أوانٍ، وأشياء خاصة بفن الديكورات.
واللافتات الإعلانية أعلى كل معرض كُتب على أكثرها "فسطاط" فترسخ في عقلي - وأنا ابن السابعة - أن هذه الأعمال الفنية تُسمى فسطاط! أظل أشاهد كل هذا، وانا مشدوه، حتى أسمع ضوضاء وأصواتاً صاخبة لكنها محببة إلى قلبي كثيراً، حينها لا شك أني وصلت السيدة عائشة حيث سوق الطيور والزواحف والكلاب والقطط.
رائحة (قرص الآرافة) تداعب أنفي، تقف (الترمكو) وينزل الناس منها ولا يجدون مكاناً في الأرض إلا لموضع القدمين، وأنزل مهرولاً إلى عربة (القرص)، ذات الأبواب العلوية التي تفتح وتصبح جزءاً من عرض العربة، بواسطة (الجنزير) ويا له من منظر! - أجمل عندي من ولائم الملوك - ومازال عقلي يتساءل عن سر رائحة (القرص) والكحك الشهية، برغم أنها مصنوعة من أردأ أنواع الزيوت! (بيعملوا من الفسيخ شربات) حقيقة!
نرجع، أبتاع ما تشتهيه نفسي، ثم أتجه يميناً، ويبتلعني الزحام، أشاهد العصافير الملونة والصقور والنسور والطيور الجارحة في الأقفاص، والثعابين والسلاحف والعقارب والحرابي.. أميّز لهجات (الخلايجة) وسط صخب السوق، وهناك العشرات من الجنسيات المختلفة مثل 'الآسيويين' الذين يدرسون في الأزهر. وهم الفئة الأكثر بعد المصريين.
أستمر في المشي حتى أسمع نباح الكلاب ومواء القطط، وكأنهم يسألون عن اتجاههم المقبل.. مع أي مشترٍ سيذهبون؟ وعلى جانبيهم بعض الأكشاك الصغيرة لبيع (إكسسوراتهم) وتلك العبوات - فخمة الهيئة - المسماة بالـ(دراي فود).
وإذا نزلت من (الترمكو) واتجهت يساراً، رأيت مسجد السيدة عائشة وعربات الفول عن يمينه وعن شماله منتشرة، وكل عربة منها يلتف الناس حولها كقطاع دائري كبير، وأرى العيش (المفقع) مرصوصاً على طاولات في صف واحد لكل العربات، وأخذ الزبون من طاولة بعينها هو ما يحدد على أي عربة سيأكل!
أعجبتني كثيراً هذه القاعدة، وشاركني إعجابي من كان معي حينها قائلاً: الرزق بينادي على صاحبه!
وبالقرب أكثر من هذه العربات أشم رائحة الباذنجان المخللّ - من مسكراتي هذا الباذنجان - ومن أكثر الأشياء التي جذبت انتباهي في سوق الجمعة، تلك الآنية المصنوعة من (الإستانلس) المليئة بشيء مقلي - لا أعلم كنهه - يُباع في قرطاس من ورق كراسة، كتب عليها بالحبر، وها هي تؤدي وظيفة أخرى غير الكتابة عليها، إنها عصافير مقلية!
أصبت بالاشمئزاز منها قبل حتى منأ أعرف إن كانت حلالا أم لا؟
وباستكمال السير بعد سوق الكلاب والقطط، تبدأ المدافن في الظهور من على الجانبين، وتصطف طاولات أمامها وتدق قضبان من الحديد في الأرض وعليها قماش كالستائر لتصبح فرشة لبيع الملابس الجديدة، بأسعار مرتفعة نسبياً عن سعرها في أسواق أخرى، فالبائع يستغل صيت سوق الجمعة وكم هو رخيص الثمن.
يتغير صنف الزبائن، ويستمر سوق الملابس هذا، حتى ترى المقاهي مزدحمة بالناس كأنها خلية نحل، لا يقتصر دورها على تقديم المشاريب فحسب، بل بمثابة ركن صغير لتجارة الفضة من خواتم وسلاسل وميداليات، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه، تجد التاجر يجلس على كرسيه، أمامه طاولة وضع عليها عُلبة من الصاج لها وجه زجاجي، يكشف ما بداخلها من خواتم، وترى بائعين - أقل من التجار في الرتبة - يقفون على أرجلهم داخل القهوة، كل إصبع من أصابع أيديهم مليء بخاتم أو أثنين، دون تصوّر يدي مكان أحدهم، تؤلمني يدي من وضع أيديهم أمامهم لساعات كالـ(منيكان) لبيع الخواتم...
رقعة الأرض أمام تلك المقاهي بمثابة نقطة الأصل في نظام إحداثي متعامد.. بالسير على محور السينات يميناً تجد أسواق المأكولات، وما فيها من عربات، يُباع فيها ما يُسمى (حلويات المدبح)، مقلية في زيت سيارات أظن!
وبإنصاف.. هذه العربات أردأ من أن تسمى (مسمطاً)؛ فتجربتي الوحيدة عليها كانت غير حميدة البتة..
وباستكمال السير نرى بناء من الحجر، أصفر اللون ذا ساحتين رحبتين، به ضريح فقيه الأئمة وإمام الفقهاء "الشافعي".. ولا أعلم إن كان سمي السوق بسوق الإمام نسبة للإمام "الشافعي" أم نسبة إلى الإمام "الليثي" (الليث بن سعد) الذي اشتُهر بكرمه وسخائه، وقال عنه "الشافعي": "الليث" أفقه من "مالك" إلا أن أصحابه (أي تلاميذه) لم يقوموا به (أي لم يدونوا ما كتب".
وسمعت عنه كثيراً من سكان منطقة الإمام، حتى ظننت أني أسمع عن الطائي من شدة جوده و كرمه!
شتان بين هذه المنطقة يوم الجمعة وباقي الأيام؛ ففي يوم الجمعة هي صاخبة مزدحمة كخلية النحل، يغلب عليها روح الحماسة والنشاط، تكاد تظن أنها تتحرك من مكانها! وفي باقي الأيام هي كئيبة حزينة، خاوية على عروشها، اللهم من بعض الأفراد العائدين من المدافن، بعد ترك فقيدهم لتراب.
أتذكر خوفي أول مرة من المدافن والأموات، و كيف كنت أبعد ظهري عن أبواب وحوائط المدافن، وأخشى الاتكاء على إحداها.
أذكر سخريتي - بيني و بين نفسي - عند سماع تلك العبارات الفلسفية عن الأموات من أحدهم، وكيف أن لا خوف منهم، بل الخوف كل الخوف من الأحياء! أما الآن فأتبنى هذه النظرية الفلسفية، التي كنت أسخر منها.
أتعجبُ من كمّ المقابر المكتوب على رخامتها (مقبرة فلان بك، ومقبرة علان باشا).. الجميع سواسية عندما الموت يدنو، واللحد يفغر فاه! فلا يُسأل عن بكوات ولا بشوات.. لكن تلاشت دهشتي عندما رأيت مدفن الملك فاروق، أحقا هو؟ أذكر عدم استعيابي لفكرة العيش في المقابر دوماً.
كيف ينام وكيف يستيقظ الشخص الساكن هناك؟ عندما دخلت بيت أحد (الترُابية) الذين يمتهنون جمع الأموال (أتاوة) مقابل أن تعرض بضاعتك أمام بيوتهم.. هذا في يوم الجمعة، أما باقي الأيام فيجمعون الصدقات من أقارب المتوفى، وهذه الصدقات أيضاً أقرب إلى (الأتاوة) منها إلى الصدقات.. دخلت منزل الترابي ذاك لأجدها مقبرة لأحد البكوات، انقطع زائروها عنها منذ أمد، ودهشتُ مرة أخرى! فهذا قصر وليس مقبرة. الجدار مكسو بالجرانيت، والأرض من الرخام، والأسقف عالية تشعرك بعدم وجودها.
نسمات الهواء بداخل المدفن هذا لا تنقطع صيفا ولا شتاء! أي ترف هذا، الذي يجعلهم يشيدون تلك المقبرة لمتوفى؟ ولما نذهب بعيداً، فهم أرحم من ملوك الفراعنة!
تمنيت هدوء وبراح المسكن بعد خروجي من منزل (التربي) ذاك.
سوق الجمعة عالم غامض كبير، من عوالم الكون الخفية، ومن الأماكن القليلة في مصرنا الآن، التي نرى فيها كل الطبقات دون فرز، تجد من لا يملك قوت يومه، وجاء يستجدي الناس، ومن يسكن (الكومباوند)، وإن كان يوجد في مصر حالياً طبقة متوسطة المستوى، ستجد ممثلوها أيضاً في (سوق الجمعة)
دون مبالغة، إذا أردت سرد تفاصيل هذا العالم سأحتاج إلى مجلدات..
* طالب جامعي، تخصص لغة ألمانية، له مدونة باسم "تباريح جريح"، مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.