د. إبراهيم الرفيع: الإلهام وعلاقته بشيطان الشعر |
د. إبراهيم الرفيع *
شاع بين العرب في الجاهلية ما أصبح حقيقة لديهم، وهو أن لكل شاعر شيطاناً يلهمه القول، ويوحي إليه الشعر، وهو الذي يقف وراء لسانه ويقذف إليه بساحر القول وبديع الكلام ، وأطلقوا عليهم أسماء، مثل: مسحل بن جندل شيطان الأعشى، وهَبيد بن الصُّلادم شيطان عَبيد بن الأبرص، ولافظ بن لاحظ شيطان امرئ القيس، وهادر شيطان النّابغة الذّبياني، وغيرهم.
قدرات عجيبة
وقد سجل الشعراء هذا الاعتقاد في أشعارهم، وفاخرالواحد منهم الآخر بشيطانه وماله من قدرة عجيبة خارقة، لا يدركها شيطان من يفاخره كأبي النجم الذي يفخر بأن شيطانه ذكر وشيطان غيره أنثى والذكر أقوى، وليس كالأنثى .وإني - وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى - وشيطاني ذكر
وآخر يفخر بأن شيطانه رئيس الجن، لذلك هو كبير الشعراء.
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِـيرَ الـسِّـنِّ
وَكَانَ فِي العَيْــنِ نُـبُـوٌّ عَـنِّـي
فَإِنَّ شَـــيْطَـانِـي أَمِـيرُ الـجِـنِّ
يَذْهَبُ بِي في الشِّعْرِ كُـلَّ فَـنِّ
ليس العرب وحدهم
والعرب ليسوا فريدين في هذا الاتجاه "فأساطير اليونان ذكرت ربات الشعر في مواضع كثيرة، وجعلتهن موكلات بالفنون الحرة عامة والنشيد والغناء خاصة، وكان اليونان يعتقدون أن ربات الشعر هؤلاء هن ملهمات الشعراء، ومعلماتهم القصيد وما ينبغي له". وقد ذكر أفلاطون أن "عامة المحسنين من الشعراء لا ينظمون قصائدهم على أنها إنتاج فني بل لأنهم ملهمون، تملكهم الشياطين".ولوعدنا إلى كلمة الجن نفسها وما حولها من اشتقاقات في اللغة العربية، ومعناها في اللغات الأخرى لرأينا "أن الجن في كل حالة مسؤولون عن التفوق الذهني كما هم مسؤولون عن الخبل العقلي، وكذلك نرى العبقرية صفة تتحقق في كل من ركبته شياطين وادي عبقر في جزيرة العرب".
لذلك فإن كفار قريش عندما وقفوا ذاهلين أمام الإعجاز البياني للقرآن الكريم نفى الله سبحانه وتعالى عن القرآن ما قد يدور في أذهانهم من هذا الاعتقاد فقال تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) الشعراء (210-211).
التواري ثم الظهور
ومع مجيء الإسلام بقي للإلهام سره الغامض، وقوته الخفية التي يستمد منها الشعراء أشعارهم، وإن توارى الرمز لها بالشياطين في بادئ الأمر، فعندما تصدى حسان بن ثابت للرد على المشركين بشعره قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله". رواه مسلم، والمراد بروح القدس الملك جبريل عليه السلام.
إن فكرة شيطان الشعر لم تنمح بمجيء الإسلام، بل توارت قليلاً ثم ظهرت مرة أخرى لكنها لم تتجاوز الرمز إلى الاعتقاد بحقيقة الشيطان ودوره في عملية الإلهام، وبقيت فكرة مجازية تستنطق بها أرواح الشعراء، ورسالة "التوابع والزوابع" لابن شهيد الأندلسي مثال واضح لبقاء هذه الفكرة واستمرارها، فقد التقى خياله فيها مع شياطين الشعراء بصحبة شيطانه هو الذي أطلق عليه اسم زهير بن نمير. والرسالة كلها مبنية على الاستفادة من تجارب هؤلاء الشياطين مع شعرائهم في صناعة الشعر.
لغز محيّر
لقد شكلت قضية مصدر الإلهام لغزاً حير العقول قديماً وحديثاً لدرجة أن بعض أعلام عصر النهضة الأوربية جعلوا الشاعر والنبي سواء، بل إن منهم من جعل الشاعرية غريزة إلهية تصدر عنها الحكمة المصفاة والعلم الصحيح.
وهم هنا قريبون من فهم أرسطو حينما سوى الشعراء بالأنبياء والكهنة في أنهم يتلقون ما ينطقون به من مصدر خارجي عنهم، وأنهم ينطقون بالكلام الحسن دون أن يعرفوا ماذا يقولون؟
وتعددت التفسيرات في العصر الحديث لظاهرة الإلهام، ولم تلتق الأبحاث على الرغم من تنوعها حول نقطة متفق عليها يرد إليها سر الإلهام في العمل الأدبي.
والخلاصة: الإلهام استعداد كامن في نفس الأديب، وملكة يولد الإنسان بها، ويفطر عليها، لأن الأثر الأدبي الجيد لا يمكن أن يكون إلا عن نفس ملهمة، ولا يكون هذا راجعاً إلى شيطان، فالشيطان يلقي الباطل في القلب، ويجريه على اللسان.
وليس وحياً يلقيه ملك من الله تعالى، وهذا خاص بالأنبياء وحالات فردية لبعض الأصفياء، وأما تأييد روح القدس لحسان بن ثابت رضي الله عنه، فهو من باب النصر والإعانة والتقوية وليس الوحي والإلهام، وحتى لو كان فهو خاص ولا يمكن تعميمه كحجة في هذه القضية.. والله أعلم.
ولنا لقاء آخر حول محور الإلهام..
وهم هنا قريبون من فهم أرسطو حينما سوى الشعراء بالأنبياء والكهنة في أنهم يتلقون ما ينطقون به من مصدر خارجي عنهم، وأنهم ينطقون بالكلام الحسن دون أن يعرفوا ماذا يقولون؟
وتعددت التفسيرات في العصر الحديث لظاهرة الإلهام، ولم تلتق الأبحاث على الرغم من تنوعها حول نقطة متفق عليها يرد إليها سر الإلهام في العمل الأدبي.
والخلاصة: الإلهام استعداد كامن في نفس الأديب، وملكة يولد الإنسان بها، ويفطر عليها، لأن الأثر الأدبي الجيد لا يمكن أن يكون إلا عن نفس ملهمة، ولا يكون هذا راجعاً إلى شيطان، فالشيطان يلقي الباطل في القلب، ويجريه على اللسان.
وليس وحياً يلقيه ملك من الله تعالى، وهذا خاص بالأنبياء وحالات فردية لبعض الأصفياء، وأما تأييد روح القدس لحسان بن ثابت رضي الله عنه، فهو من باب النصر والإعانة والتقوية وليس الوحي والإلهام، وحتى لو كان فهو خاص ولا يمكن تعميمه كحجة في هذه القضية.. والله أعلم.
ولنا لقاء آخر حول محور الإلهام..
* كاتب وباحث وشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.