عصام حقي، شيء من الرمضانيات: مفاتيح الأندلس |
عصام حقي
بدأت بوادر الكارثة الكبرى على الأندلس بعد أن شكّل فرديناند ملك ليون مع زوجته إيزابيلا ملكة قشتالة حلفاً، وجهّزا جيوشاً جرّارة لمحاربة العرب المسلمين؛ بينما كان ملوك الطوائف فيها منشغلين بالفتن والصراعات الداخلية....
وهكذا انقضت جيوش الإسبان عليهم، ودارت بين الطرفين حروب طاحنة انتهت بخسارة المسلمين، وانهيار غرناطة آخر معاقلهم وسقوطها بيد الإسبان.
* * *
ولما وقّع أبو عبدالله الصغير حاكم غرناطة مع ألفونسو المعاهدة التي سلّمه بموجبها مفاتيحها، قال بحسرة: هذه مفاتيح الفردوس.
وفي طريق المغادرة، وقف على سفوح جبل الريحان، واستدار ليلقي نظرة الوداع الأخيرة عليها، فلم يتمالك نفسه، وأجهش بالبكاء، فدنت منه أمه عائشة، وقالت له عبارتها الشهيرة:
(إبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال)
* * *
وقد كان للشعراء دور أدبيّ كبير في رثاء هذه الممالك وأحوالها، وكان لأبي البقاء الرندي، وهو من كبار شعراء الأندلس، وشعراء الرثاء خاصة، كان له قصب السبق في هذا الفن بمرثيّته الملحميّة الحزينة المعروفة التي مطلعها:
لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ
فلا يغر ّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ
من سره زمن ساءته أزمانُ
لقد تحوّل الرنديّ بفنّ الرثاء في هذه القصيدة من شكله التقليديّ المعروف (رثاء الأحبّة والأصحاب)، إلى لون جديد يتجلّى برثاء المدن والممالك الزائلة.
وراح يطوف بعدسته الشعرية على أطلالها يصوّرها مابين مُلك ضاع، وتيجان تطايرت، وعروش هوت، وأصحابها:
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ!
فكأنّ قضاء محتوماً قد حلّ بهم، فصار كلّ شيء بهذا الوطن الضائع أثراً بعد عين:
أتى على الكلّ أمر ٌ لا مردٍّ له
حتى قضَوا فكأنّ القوم ما كانوا
فجائع الدهر أنواع ٌمنوّعةٌ
وللزمان مسراتٌ وأحزانُ
* * *
لقد وقف الشاعر أبو البقاء الرنديّ على الممالك الزائلة؛ مملكةً مملكة ومدينةً مدينة في سؤال مرير عن أحوالها:
فاسأل بلنسيةٍ ما شأنُ مرسيةٍ
وأين شاطبةٌ أم أين جيّانُ؟!
وأين قرطبةٌ دار العلوم فكم
من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
* * *
ولم تكن حال (حمص الأندلسيّة) بنهرها العذب الدفّاق، ومتنزّهاتها الساحرة بأفضل من حال أخواتها، فقد غرقت كذلك في بحر الحيرة والحزن والقهر:
وأين حمص ٌ وما تحويه من نزهٍ
ونهرها العذبُ فيّاضٌ وملآنُ
ياغافلاً وله في الدهر موعظة
إن كنت في سِنةٍ فالدهر يقظانُ
وماشياً مرحاُ يلهيه موطنه
(أبعد حمصَ تغرُّ المرءَ أوطانُ)؟!
* * *
ويواصل الرنديّ رحلته الشعريّة مبحراً بزورق القنوط، في أرجاء وطنٍ انهارت فيه القواعد والأركان، ولم يعد هناك (برأيه) أيّ مبرر للبقاء به:
قواعدٌ كنّ أركانَ البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبقَ أركانُ؟!
* * *
ويستنهض الشاعر همم الفرسان من بني (مرين) بالمغرب وشمال أفريقيا، ويذكّرهم بمصاب إخوانهم بالأندلس، لاستفزاز روح النخوة والحمية فيهم، في دعوة استغاثة واستنجاد واضحة:
ياراكبينَ عتاق الخيل ضامرةً
كأنّها في مجال السبْق عقبانُ
أعندكم نبأٌ من أهل أندلسٍ
فقد سرى بحديث القوم ركبانُ؟!
* * *
فيالهذا الوطن الضائع، الفقيد ....!
يالهذا الوطن الأسير الذي لا تسمع فيه إلّا صيحات المستضعفين واستغاثاتهم، وقد عضّتهم النكبة بأنيابها الحادّة ، فتساقطوا بين قتيل وجريح وأسير، دون أن يهتز لمأساتهم ضمير، ولايتحرك لنجدتهم وجدان، إن كان ثمة بقايا ضمير ووجدان في بني الإنسان:
كم يستغيث بها المستضعفون وهمْ
قتلى وأسرى... فما يهتزّ إنسانُ !
* * *
فما أشبه اليوم بالبارحة!
ما أشبهه يا أبا البقاء!
تم
ردحذف