عصام حقي، شيء من الرمضانيات: الغلام القتيل |
عصام حقي
في حياة طرَفة بن العبد الشاعر الجاهليّ المعروف وصاحب المعلقة الكبيرة التي مطلعها:
لخـولـةَ أطــــلالٌ ببـرقـةِ ثهمـــدِ
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ِ
في حياته صراع داخليّ عنيف ربما كان مصدره نشأته التي عانى فيها الأزمات النفسية على يد أقرب الناس إليه كأخوته وأبناء أعمامه.
وربما دفعه هذا الصراع إلى التمرد والثورة على الواقع بطرق سلبية قوامها اللهو والخمرة والإسراف واللعب، ذلك أنّه شبّ، وهو يافع بلا هادٍ، ولا تجربة تحميه وتدلّه على الدرب الصواب لاستعادة حقّ هضيم.
فقد مات أبوه عنه صغيراً، وأهمله أعمامه وحرموه من الإرث. وضيّقوا عليه، فعانى مع أمه حياة البؤس والحرمان.
وهو ما عبّر عنه بأحد أبيات المعلقة الذي سار مثلاً:
وظلم ذوي القربى أشــد مضاضةً
على المرء من وقع الحسام المهنّد ِ
* * *
وهو ما عبّر عنه بأحد أبيات المعلقة الذي سار مثلاً:
وظلم ذوي القربى أشــد مضاضةً
على المرء من وقع الحسام المهنّد ِ
* * *
شكا ظلامته لابن عمه فأنّبه وطرده، كما زجره أخوه معبد لتهاونه برعي بقايا الإبل لديهم، وزاد طينَ عيشه بِلّةً نفي قبيلته له، وطرده عنها بقسوة، صورها تصويرا ماديّاً في معلقته، إذ شبْه نفسه، وهو منفيّ محجور عليه، بذلك البعير الأجرب الذي طلي بالقار، وأبعِد عن قطيعه وحيداً بائساً:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأُفردت إفراد البعيـــر المعبّد ِ
وحيال ذلك رأى أن الهجرة هي الخلاص، فراح يضرب في طول الأرض وعرضها حتى بلغ أقاصي الجزيرة العربية، وهو يبحث - فلايهتدي - عن نقطة الضوء في هذا النفق المعتم. وقد آلمه وأثخنه جراحاً ظلم القريب قبل الغريب.
* * *
ولكن هذه المحنة، من جهة أخرى، كانت محرضاً ملهماً لملكته الشعرية التي تجلّت في معلّقته التي ذكرنا بعضاً من أبياتها، والتي كانت خلاصة مأساته، وترجمان حياته، ولوحة آماله، وتطلّعاته، وفلسفته في الموت والحياة، فجاءت ملحمةً شعريةً ارتقت به إلى درجة رفيعة في سلّم الشعر العربي.
* * *
فبعد وقوفه فيها على أطلال خولة، ووصفه الناقة، ورحلته معها وصفا مطوّلاً، انتقل إلى الفخر بنفسه بصور متتالية ملوّنة رائعة، لا يصرح بمناقبه من شجاعة وكرم تصريحاً مباشراً، بل كان يومئ إليها إيماءً ببراعة شاعر مقدّم.
فهو يظنّ إن تساءل القوم عن الفتى الشجاع، أنهم يقصدونه، فيلبي نداءهم دون توانٍ أو فتور، وإذا حلّ التلاع يوماً فإنه شجاع كريم، لا يحلّها فراراً، ولاخوفاً من نار الحرب، ولا من قدوم ضيف طارئ:
إذا القوم قالوا من فتىً؟ خلت أنني
عنيــت فلم أكســــل، ولـم أتبـــــلد ِ
ولســـت بحـــلال التـــلاع مخـافةً
ولكن متى يســـتـرفدِ القوم أرفـــد ِ
كما يفتخر بأنّه في أعلى البيوت شرفاً وحسباً ونسباً، إذا ما تفاخرت القبائل بانتمائها:
وإن يلتـق الحيّ الجميــع تلاقِــني
إلى ذروة البيت الشريف المصمّد ِ
* * *
وقد كانت له فلسفته الخاصة في نظرته إلى الحياة والموت. فالحياة برأيه كنز ثمين، يتناقص ويتلاشى يوماً بعد يوم في الطريق الحتميّ إلى النفاد. والموتر لابد أن يدرك كلّ فرد من البشر في لحظة ما دون أن يخطئ أحداً منهم. والإنسان كما يرى الشاعر مقيّد بحبل يتحكّم الموت به، ليجذبه إليه ساعةَ يشاء:
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
ومـا تنقـص الأيـام والدهـر ينفد ِ
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليــــد ِ
(الطوَل: الحبل)
* * *
وينتهي المطاف بطرفة إلى ملك الحيرة عمرو بن هند، الذي قربه إليه فحظي برضاه ونعمه فترة، ولكن الملك يغضب بعد ُعليه لسبب مجهول - قيل إنه لشعر سمع أنه هجاه به - وقيل: إنّه لغزل قاله بأخته، وقيل إنه كان يتفاخر بشعره عليه.
فيرسله مع خاله (المتلمس) إلى (المكعبر) عاملِه على البحرين، وقد زوّد كلاً منهما برسالة، وأمرهما بتسليمها للمكعبر.
أما المتلمّس فقيل إنّه استشعرخطراً يتهدده، كامناً بجوف الرسالة، فمزقها وألقاها بالنهر، ولم يكمل الرحلة، ونصح طرفة بقراءة رسالته، واكتشاف ما فيها كما فعل هو، لكنه رفض أن يخون الأمانة، وواصل الطريق، حاملاً بيده كتاباً قد يكون ملغوماً بما لا تحمد عقباه.
وهكذا وصل طرفة إلى البحرين وسلّم الرسالة لصاحبها، وكأن حبل الموت كان يتأهب لجذبه إليه ........
وهكذا مات طرفة وانتهى أحد عباقرة الشعر العربي، وكان مازال يراوح في الربع الأول من حديقة العمر.
مضى طرفة قتيلاً يناهز السادسة والعشرين، لتنعيه ابنة أخيه كما طلب إليها ذلك في معلقته ذات يوم:
فإن مت ّفانعيـني بما أنا أهلُه
وشقّي عليّ الجيبَ يابنةَ معبد ِ
ومضى في ريعان الشباب، مضى طرفة ... مضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.