منصور النقيدان |
كتب: مازن العليوي
عرفت الكاتب والباحث منصور النقيدان منذ عشرين عاماً، ومنذ لقائنا الأول في صحيفة الوطن حيث عملنا معاً في القسم الثقافي، ولغاية اليوم مازلنا صديقين وأخوين ، نتواصل مع بعضنا باستمرار، وطالما قرأت كتاباته أيام صحيفة الوطن وما بعدها، لكن كتابته الأخيرة عن أمّه التي نثرها أمس عبر تغريدات على موقع "تويتر" كان لها أبلغ الأثر في أعماقي.
في كلماته يخرج النقيدان من شخصية المثقف، إلى شخصية المثقف الابن، فيبدع في صياغة لواعجه ومكنونات صدره، موضحاً أنه كان متردداً في الكتابة عن أمه، لكن وضعها الصحي الصعب - حماها الله - شجعه على الكتابة.
منصور الابن يعود بالذاكرة إلى حيث نشأ في القصيم، إلى مواقف الأم الحقيقية، وإلى دعائها له بأن يعافيه الله مما أعاقه عن النجاح في هذه الحياة، وإلى أحاديثها وبكائها حين تتذكر المواقف المؤلمة.
لن نتحدث عن منصور النقيدان كثيراً، فشخص مثله يستحق أن نكتب عنه قريباً في باب "وجوه عربية"، لكن سوف نترككم مع كلماته الغارقة بالشجن عن والدته، مع دعواتنا لها بالشفاء:
تسجيل ثلاث ساعات
(ترددت كثيراً في الكتابة عن أمي الحقيقة جبنت. سأتشجع وأكتب عنها، فهي الآن في وضع صحي صعب للغاية، وهي في الرابعة والثمانين. أعرفها جيداً منذ ولدتني، لأنها أمي. صحبتها خمسين عاماً، ولطالما حاولت جاهداً أن أتعامل مع رحيلها إذا حصل وأنا حيّ عبر وسائل عديدة من الإقناع أتعبت ذهني وقلبي.قبل 21 عاماً تمكنت من تسجيل ثلاث ساعات مع أمي فاطمة إبراهيم الحمود، تحدثت فيه عن طفولتها ومراهقتها وشبابها وزواجها وأبنائها، كان ثلث التسجيل بكاء مراً ونشيجاً كلما تذكرت لحظات قاسية وموجعة لقلبها، وكلها لحظات فقد ورحيل وغياب حفرت ندوباً عميقة في روحها وقلبها. لازلت أحتفظ بالتسجيل.
بقيت 21 عاماً محتفظاً بهذا التسجيل لكنني لم أتشجع إلا مرة واحدة للاستماع إليه كي أطمئن على سلامة التسجيل، ومع ذلك لم أتمكن من إكماله. حينما كنت طفلاً كنت أعجب من جدتي هيلة، لأنها كانت على الدوام تنشج وتبكي حين اللقاء وحين الوداع والفراق، كنت أعجب من أين لها هذا الخزان من الدموع!
رغبة فطرية في حب الحياة
أمي هي آخر الباقين من ذرية إبراهيم الموسى الحمود، الذكور والإناث، كلهم رحلوا، وقد أخفينا عنها موت شقيقها الأصغر خالي موسى الذي توفي قبل أكثر من عام ونصف العام، كانت تلومه على عدم زيارتها طوال هذه الفترة، وتلوم من يحول بينها وبين الاتصال به. في أمي فاطمة تتجسد الرغبة الفطرية في حب الحياة.سأتجاوز في هذه التغريدات القسوة على نفسي، أو ذكر مواطن الضعف في أمي، أو إظهارها كقديسة، فأنا أكتب حتى أكون قادراً على امتصاص حكم سنة الحياة وتخفيف وقعه علي، لكي أتماسك. ما أكتبه هنا هو امتداد لكل وسائلي التي استخدمتها منذ رحيل أبي وأنا لم أكمل السابعة عشرة، منذ أربعة وثلاثين عاماً.
قبل 26 عاماً استيقظتُ في السحر، وكانت أمي تصلي، كانت لا تدعو ربها إلا بنشيج وكلمات متحشرجة، تلصصتُ عليها. دعت لي بأن (يطلق الله عوقي) أي أن يعافيني مما أعاقني عن النجاح في هذه الحياة - تراه هي بسبب العين- فقد كنت فقيراً معدماً. ومع أن حياتي تغيرت جذرياً، فإنها لازالت تدعو لي بهذه الدعوة.
محاط بنعمتين
قبل سنتين كنت أنا وابني يوسف وابنتي ليلى نحف بها، دعت لي كالعادة، ودعت أن "يطلق الله عوقي"، قلت لها: "يوه، تراه أموري زينة من 15 سنة، وفك الله عوقي، وراك متعنقطة بهالدعوة؟!". قالت "أدري، وأنا أدعي يعافيك من كل عائق لك. الدعا زين، تراي أدري أن السبب فلان هو اللي نحتك (اصابك بالعين) من 35 سنة".أنا محاط بنعمتين، إحداهما ربما هي عقدة نفسية لا أنوي التشافي منها، وهي أنني أجد في غمرة الحزن لذة خفية بالألم النابع من الفقد والهجر، والأخرى هي الامتنان لنعم الخالق حينما تحيط بي الظلمة، كلاهما ساعدتاني على التماسك، فقد فكرتُ جدياً مرتين في إنهاء حياتي خلال العشرين عاماً الماضية.
طلبت المستقر بكل أرض
فلم أرَ لي بأرض مستقراً
طوال السنين الماضية وأنا أضرب في الحياة، أبحث عن (نبع الحكمة) عن ترياق أو لقاح يمنحني الفهم والوعي والصبر والمرونة لامتصاص فقد من إذا رحل تضعضعت قواي.
قال لي صديق عام 1994 "أنت جبل لاينهد ولا يتهاوى"، كله وهم، فما نحن إلا هباء).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.