أمان السيد، نوافذ بحرية: كي يطمئن قلبي من الجنون |
أمان السيد*
تبرّع لتصنع السعادة. اصرخ ببذاءة القول لتهَب الفرح. سلوكان، وشتّان ما بينهما. فحين ذلّ الحاجة يكسر رقاب المحتاجين، ويُخفت النور في عيونهم، لا يمكنه مطلقاً أن يقارن بفجور المشاهير وهم يُذلّون، ويتذللون أمام عدسة الكاميرا لتسلية جمهور يتابع، والذي في سبيله يقيد المشاهير ونجوم السينما بالسلاسل كالمجرمين، ويقذفون بالماء، والألوان، فيغدون مهزلة ومضحكة، وهم الصاغرون المحقّرون بامتنان مادام المشهد المسرحي سينيلهم أجوراً عالية، ويضيف إليهم مزيداً من بريق نجومية.
أيّ تاريخ سوف يكتب؟!
البرنامجان " قلبي اطمأنّ"، و"رامز مجنون رسمي" يعرضان معاً في شهر رمضان الكريم، وقد زاد الطين بلّة أنهما جاءا تحت شعار "خليك في البيت" ضمن الدعوة إلى التباعد الاجتماعي في ظل جائحة كورونا، مما يعني أن الأُسر لا محال ستجتمع أمام الأقنية الفضائية، وتتداول الغث والسمين، وإن لم تكن على مقدار من الوعي والحكمة فسوف تقع الطامة الكبرى.رامز "مجنون رسمي" كما يُلقّب نفسه هذا العام، يضيف في شارة البرنامج الأغنية التي تسوق له نصراً جديداً حين يعلن أنه سيدخل التاريخ. هكذا وبكل بساطة. نحن نوقن أن الفاتحين للخير، والمنوّرين للعقول والأفئدة يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، ويكتبونه بأحرف من ضياء بما يقدمون من عظيم العمل، ولكن أن يدخله المجرمون ومفسدو العقول البشرية ومبلبلو معتقداتها وعواطفها، فأي تاريخ ذاك ستتداوله الإنسانية؟! هل هو نفسه التاريخ الذي في كل فترة تفتح أبوابه للتنقيب والمساءلة في البحث عن الحقيقة، أم هو الذي قد غدا ألعوبة الساسة، كما غدا ألعوبة صناع الدراما، وبرامج التسلية، وملء الوقت والفراغ بما يلذ ويطيب من الصراخ والشتائم والمشاهد البالية بما تحمل من استجلاب للفرح بالتشفي بردود أفعال من يعدهم بعض الناس نجوماً ورموز سينما وتلفزيون، وهم يُتداولون كالكرات، ويُدارون كالدمى أمام الأنظار؟!
مثل هذه البرامج لا تحتاج إلى حملات تسويق للتبرع لأن المتبرعين للأسف كثر، فالمساهمون في تلك المشاريع لهم خططهم المدروسة والممنهجة لكل عام في غزو أحضان البيوت، وبراعمها.
السّوس يأتي في رمضان
"فيفي عبده" مثال حيّ آخر في برنامج يعرض في رمضان أيضاً، هو "خلّي بالك من فيفي"، وكأني بها تريد أن تسترجع أمجادا مزيفة بدأتها "سعاد حسني" في فيلمها الذي حمل عنواناً مشابهاً، كان" خلّي بالك من زوزو"، تاركة فعل الأمر في دلالته أنّ الأنثى فقط هي المقصودة بالدعوة. عناوين مقزّمة انصبّت جلّها على المضمون الذي أتى مسفّاً، لا يحمل من الإسقاطات إلا التشويه وتدمير عقول البشر، والتي هي بكل حزن قد بلغت شوطاً كبيراً في الانحدار، وإن كنا ما نزال نعوّل على القلة من مستنيري العقول والفكر، وعلى الأطفال والأجيال الشابة بالنهوض، لكن هو السّوس يأتي في رمضان بالتحديد، والذي المفترض به أن يكون شهر إعادة صياغة للقيم وللنفوس، لينخر البراءة، والسواعد الفتية فيما ننتظره منها، ويزلزل أحلامنا أيضاً.أعتقد أن طفلاً في السابعة من عمره، وهو يتابع "رامز مجنون رسمي" سيكون أكثر بهجة من متابعته برنامج "قلبي اطمأنّ"، فالتّزويق والضّجيج اللذان يصاحبان ذاك البرنامج المستفزّ يتعارضان مع هدوء الخير والنصيحة، والإحساس بمعاناة الفقراء والمساكين والطبقات المهمّشة، الذي يقدم به "قلبي اطمأنّ" على الرغم من التفاوت الأخلاقي الكبير بين المعروضين، مع رامز سيضحك طفل السابعة ملء فمه، وهو يشاهد ساديته في معاملة الضيوف من ألوان ترشّ في شعورهم، وانتهاء بالكرسي الشاهق المرعب الذي يربطون به، والذي ليس إلا مجسماً لما تحتفي به ساحات ألعابه تلك التي كان يُسرّ وهو يلعب بها في مراكز التسوق وأماكن اللهو، والتي بوعد بينه وبينها في هذه الفترة، لتنقل إليه في عقر داره ممنهجة في ما تهدف إليه بتدهورها، ووضاعة مضمونها. حقاً إنه لغريب جداً ذاك التوافق!
تحطيم القيم والمبادئ
الطفل نفسه لن يكتشف السم الذي يذرّ له في مثل تلك البرامج حين يوجه عقله الصغير ليربط الفرح والبهجة بالعنف والتسلط والسّباب والقذع بالدفاع عن النفس، ولن يدرك المرمى المرعب في تحطيم القيم والمبادئ التي يفترض به أن يتقلدها من احترام للآخرين ولكبار السن، فالحابل قد اختلط بالنابل أمامه، هناك امرأة تُدفَع باليدين، وتُدحرج على السّلم، وهناك رجل يُركل ويُسخر من لباسه وهيئته، وكلّ استهزاء، وخروج عن القيم والأعراف العامة محلّل عند "رامز مجنون رسمي"، ومباح في التسويق لبرامج من هذا النوع، أما المراهق فستكون مقاييس التميز عنده الأجر الخيالي الذي يسمع أنّ النجم رامزاً يناله في كل عام بدليل استمراره، وإطلالاته المتكررة في الشهر الفضيل نفسه، لا ذاك المحسن "غيث" الذي يجوب الأصقاع والبلدان بحقيبة الرّحالة على ظهره، وقد تقرّى عن الذين أحبطهم الفقر، وقهرهم الاحتياج، فيهبهم الخير، والعون وهو يحرص على مشاعرهم، يعانقهم عناق الأخ المحبّ، يشرب معهم شايهم، ويؤاكلهم على موائد تفترش الطرقات، بينما "رامز" يتشفّى بكرامة ضيوفه، ويستغلّ ما وضعهم فيه ليشهدوا على أنه نجم يوتيوب الأول. إن الطفل والمراهق لن يدركا بالطبع إلا من منهما أوتي وعياً جاء سليل تربية، أو أوتي أهلاً مرشدين متيقظين، ما يسوّق له "غيث" المحسن الكريم، والواصل الآخرين بالعطاء عن الخير ومفهومه، وعن المقصد السامي من مشاركة أصحاب الكرب كربهم، والتنفيس عنهم فيها، ولن يدرك في ظل تلك الحرب الشعثاء القيم الإنسانية والأخلاقية الكبيرة التي تبنى عليها المجتمعات، فتدوم بها، وتستمر، وتسمو، ولا القصد وراء إخفاء الوجه بلثام، حرصاً على صدقة لا تعلم شماله عن يمينه منها شيئاً، وحفاظا على المحتاج من إحساس بذلّ الوهب، ولن يثمّن الوميض الذي تبثه عيون المحتاجين وضائقاتهم تُفرج بيد ذاك المحسن، وأمثاله في برنامجٍ يعرض لوجوه مغيّبة بين البؤس والحزن والتشرد والمعاناة، ناهيك عما يحمله الخير من الراحة النفسية والاطمئنان لقلب المحسن، والمحسَن إليه. إن ذاك الطفل، والمراهق سيحتاجان حينذاك حقاً إلى من يعدّل في رأسيهما موازين النجومية.تآزر قوى الشر والإبادة
كوفيد 19 ليس الوحيد الأعزل في المحاربة في هذا الشهر الفضيل، بل لقد اشتد البلاء، وتكاثف في تآزر قوى الشر والإبادة لمحاربة الأهل في فلذات أكبادهم، فكم من جبهة عليهم أن يتصدّوا لها، هذا إذا حظيت الأسر بالرّعاة العقلاء، إذ كم منهم من متضاحك مع المتضاحكين، وهاذر مع الهاذرين، وعابر بمآسي البشر مرور الكرام، فلا هو يعيها، ولا هو يعي الخطر الذي يستضيفه حين يقتحم عليه عرينه، وينهش عقول أغلى الناس لديه.ديستويفسكي قال "وسط الألم ابحث عن السعادة"، وجبران قال "السعادة بسيطة جداً، قد تكون كلمة جميلة، أو شخصاً يشاركنا هم الحياة"، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد مَلَّكنا الدنيا بأسرها، حين قال "من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".
* كاتبة مقيمة في أستراليا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.