بسام الحافظ، قصص قصيرة: ثلاث صور كدرة اللون |
بسام الحافظ
الصورة الأولى
يسقط أرضاً.. عواء طويل يمتد.. يرتفع عالياً ليعانق فضاء المكان الرحب، ثم يرتد بطيئاً يخالطه أنين موجع.. تغيب الصور.. تتلاشى الأشياء نهائياً وينطفئ النور، ينز الدم من فتحة جرح غير منتظم الحواف.. يتلوى على الأرض الملتهبة.. يتدفق أكثر ليتحول إلى بركة متخثرة.هدأت روحه من ضجيجها، فسكنه أمان مؤقت.. ركض دافعاً صدره الى الأمام بقوة.. قذف بضعفه وخوفه وراح يهبط بحماس.
- أنا أخو فضة.. لقد فعلتها..
زغاريد محمومة.. صوت المزمار يفجر صمت المكان.. يمزق ستائر الحداد.. تتصاعد ألسنة اللهب وتصهل.
تتزاحم العباءات الوافدة إلى أرض الحوش الذي احتضن الجثة، تتباعد بفعل الريح والندب، تكشف عن وجوه برتقالية.. عيون فقدت بريقها وخاست بالكحل المختلط بحبات الدمع التي هاجرت موطنها قسراً. تحت جدار (اللُبن) لاذ رجال خلف صمتهم. البعض منهم أشعل سيجارة وعلق نظراته بالسماء وشرع يحرق جوفه.
- سودة عليكم..
التحموا.. يلتهب كتف النهر.. تتصارع الأحشاء داخل البطن الواحد.. تتفرق بوجع وألم حارق.. هجروا بيوتهم وأحلامهم وتناثروا في أطراف المدينة الصاخبة..
وأمام القضاء تنحنح أكبرهم سناً وأفاد:
- سبب الخلاف ياسيدي.. محاولة عليوي تصوير زريفة وهي تدبك...
* * *
الصورة الثانية
يسقط أرضاً.. طلقات تنفذ من صدره.. يحس بالدفء فيستنشق رائحة الدم المهاجر من الأوردة والشرايين.. تتكسر أحلامه.. تتحرر الكاميرا من يده، وقبل أن تغادره روحه اللجوجة ارتعشت شفته العليا:- أنقذوني..
وأفلت الشمس.. جنزير الدبابة يهرس الأعشاب الطرية.. وأقفال لجمت الأبواب والألسن..
- تقدموا..
الدم الطازج يغطي مساحات الأرصفة والحواري.. يتغلغل في أديم الأرض.. أناشيد وزغاريد تشق صدر السماء.. أخذ الشريط من الكاميرا المحمولة.
مشاهد الحرب والسلام آخر الصور.. طفل اضطربت أحواله.. حاول الإفلات من القتل، لكنه يقع أرضاً.. الجندي يمسح المكان.. يعاجله بطلقة.. يرتعش.. تهتز الصورة.. ظله يتطاول.. يغطي مساحة الأحياء الثكلى...
* * *
الصورة الثالثة
يسقط أرضاً.. يهاجمه الكلب بوحشية.. يحاصره النباح وصوت بكاء أطفاله. يمد يده محاولاً دفعه بعيداً.. يتجمع الزبد حول خطمه.. يتقاطر.. يكشر عن أنيابه. يغرسها في اللحم الأسود.. يرسم الدم فوق الأرض لوحة تشكيلية عامرة بالألوان الفاقعة.يرافق الكلب ثلاثة رجال يحملون الهروات الغليظة، يتمنطقون بمسدسات حربية، تبين أخيراً أنهم صاروا أربعة كلاب مدربة على القتل بطريقة عصرية.
تخاطفته الجزمات.. ركلته بقسوة.. ترك وحيداً.. يتعالى البكاء أكثر.. يندمج مع صوت النباح الجائع. لاحقتهم نظرات الرجال الذين ظلوا يهرشون صدورهم وجبهاتهم من دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة.
تتداخل الصور.. تختلط.. تضيع المعالم، ولم يعد يعرف الكلب من رجل البوليس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.