صنعت هويتها الخاصة عبر عملية تراكمية خلال سنوات قليلة.. تمتلك هدوءاً من نوع فريد، وذهناً متوقداً يعرف ما يريد.. انطلقت بإمكاناتها المتميزة بسرعة صاروخ عابر للقارات فصارت تجوب القارات بإبداعاتها.. وما بين تخصصها في الهندسة الكيميائية وهوايتها في الكتابة جمعت تاريخاً يحسب لها موظفةً تخصصها الدراسي في محاكمات عقلية جعلتها تحسن اختيار المكان والزمان والعنوان.. وعلى الرغم من أن عنوان إصدارها "بيض عيون" لم يقنعها بعد صدوره، لكنه إصدار يستحق القراءة، وعنوانه متفرد في أسلوبيته، لا يخطر على بال أحد..
إنها الكاتبة الإماراتية إيمان اليوسف صديقة الضوء والحروف التي حققت في سنوات معدودة ما عجز الكثير عن تحقيقه في عشرات السنين. هي اسم صار غنياً عن التعريف، وبات علامة فارقة في مساحات الإبداع الإماراتية في السنوات الأخيرة.
حكاية التجريب
حاولت بعد التخرج من الجامعة الأمريكية أن تعمل في مجال تخصصها، لكنها لم تجد ما يناسبها، فمضت إلى هواية الطفولة لتشبع ذاتها المعرفية قراءة واطلاعاً وتجريباً في الكتابة وما يتعلق بها، فنالت دبلوم التدريب على الـ"جرافولوجي" من فرنسا وتحديداً من الأكاديمية العالمية لتحليل خط اليد، ولديها تجربة في العمل في مجال الدعاية والإعلان، وأخرى في المبيعات والتسويق. لكن تجربتها في كتابة مقال أسبوعي في صحيفة "الرؤية" منذ صدورها أواخر العام 2012 شكلت نقلة نوعية في مسارها الإبداعي، فطورت أدواتها الكتابية، وصار لها حضورها في الساحة الإعلامية، وعلى الرغم من أنها جربت العمل الصحفي في "الرؤية" ذاتها شهوراً عدة، إلا أنها لم تكمل التجربة، ولعل ذلك يعود إلى عشقها الجارف للتحليق في فضاءات خاصة.ولا نبالغ لو قلنا إن الفضاءات صارت تأتي إلى إيمان اليوسف بدل أن تذهب إيمان إليها، فتارة هي في حوار تلفزيوني، وأخرى تقدم ندوة في فعالية ثقافية، وتارة نسمع أنها سافرت إلى الخارج للمشاركة في حدث ثقافي أو لتمثيل الدولة في أحد النشاطات أو ضمن وفد يشارك في معرض كتاب أو أسبوع ثقافي، وغير ذلك من سحر إبداعي صار سمة ملازمة لـ"إيمان اليوسف"، في حركة لا تهدأ، حتى ليشعر المرء أنه لا يمر يوم في حياتها من دون حدث بارز فيه.
رؤية معرفية
ومن بداياتها القرائية إلى عوالمها الكتابية توجد الكثير من التفاصيل، فشغف القراءة في مرحلة الصغر أثرى مخزونها المعرفي بالمعلومات والمفردات وكيفية صناعة ما هو مختلف، لذلك عندما نضج العقل صار يدرك أي الأدوات يحتاجها في هذا المجال أو ذاك.. وتحولّت حالة "الوحدة" التي مرّت بها في مرحلة ما من بداياتها إلى حالة تواصل يومي مع الآخرين، فلم تعد وحدها، بل باتت تشارك مع النخب في الفعاليات وتخاطب المتلقين بما يقدم لهم الجديد.الكتابة كانت بالنسبة لـ"إيمان" رؤية معرفية من خلالها توغلت في أعماق ذاتها لتستكشف دواخلها، وتفهم كينونتها، وما فوزها بالمركز الأول عام 2016 بجائزة الإمارات للرواية عن إصدارها الروائي "حارس الشمس" إلا من ثمار الجهد الكبير الذي بذلته في تنمية ذاتها، وتطوير قدراتها الكتابية. لذلك لم يكن غريباً أن تترجم بعض أعمالها إلى لغات أخرى، منها الفرنسية والصينية والهندية والبرتغالية.. ومن "وجوه إنسان" إلى "طائر في حوض الأسماك" و"بيض عيون" و"خبز وحبر" ثم سيناريو فيلم "غافة" ظلت "إيمان" تغوص في بحور التجديد والاستكشاف، ويبرز حصولها على الزمالة الفخرية من جامعة آيوا الأمريكية في الكتابة الإبداعية كعلامة فارقة ضمن السبل التي انتهجتها كي تحصل على مزيد من الثروة المعرفية لمتابعة مساراتها الخلاقة. ويأتي حضورها كعضو إداري في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ضمن أجزاء تلك المسارات، وكذلك استعدادها لرسالة الماجستير في مجال "إدارة المعرفة".
الأنا والآخرون
في روايتها الأخيرة "قيامة الآخرين" تمضي إيمان اليوسف إلى اختراق جديد في حياتها، ضمن إطار فلسفي يحمل الكثير من التساؤلات الوجودية عن أسرار الذات وتكوين الإنسان، وما بين حالتي "الأنا" و"الآخر" ثمة حكايات يتجلى فيها محور "الفرد" الذي لا يرى في الآخرين إلا شكلاً واحداً، ثم يهيم في أحداث معقدة تكشف أسرار "القيامة الفردية" لبطلة الرواية "ميعاد".في "قيامة الآخرين" تتداخل هواجس الإنسان الداخلية النفسية مع الأحداث السياسية والواقع الاجتماعي، ومع التاريخ المكاني والتراث، ضمن قالب من الفانتازيا المصنوعة بعناية فائقة، قالب مليء بالتساؤلات عن الذات و"الأنا" والجحيم والوجود والعالم بأسره بالإضافة إلى ما ستكون عليه القيامة، وهي الأولى الكبيرة.. وتسبقها قيامة الآخرين الصغيرة.
رسالة وصفحات
إيمان اليوسف.. بدأت طريقاً لا بد أن تستمر فيه، هي صاحبة رسالة، والرسالة مازلت في مراحل تكوينها، ظهرت بعض أجزائها والبقية تنتظر الوقت المناسب للظهور.. تمارس حالياً تدريب الموهوبين على مهارات الكتابة، وتحمل في جعبتها الكثير.. ولا يعدّ ما تقدمه على قناتها الشخصية على "يوتيوب" إلا قليلاً من كثير موجود في مخزونها المعرفي.مازلنا ننتظر اكتمال رسالة إيمان ولا نحسب ذلك بعيداً، ويوم اكتمالها نستطيع القول إن إيمان لم تترك بصمة في تاريخ المكان فحسب، بل رسمت بإبداعاتها صفحات من ذلك التاريخ، صفحات تسجل باسمها، صفحات سيكون لها شأن لدى الأجيال المقبلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.