مراجيح وصغار |
مازن العليوي
سامح الله المتنبي على بيته الشعري الذي طبّقت شهرته الآفاق، وتناقلته الأجيال.. حتى صار "عيد بأية حالٍ..." لازمةً لكل من يريد الكتابة عن العيد، فيُغرق نفسه ويُغرق قراءه بالحزن على اليوم والغد.. والترحّم على الأمس الذي مرّ وانتهى.
للمتنبي ظروفه التي حوّلته إلى شخص "نكدي" وجعلت الحزنَ ينبع منه، ولكنّ قدرته الشعرية المذهلة نقلتْ ذلك الحزن إلى الأجيال التي أتتْ بعده، ونحن بدورنا - بعيداً عن جائحة كورونا - نريد للجيل الذي يلينا أن يصطبغَ بالنغمة الحزينة ذاتها، بتكرار بيت المتنبي على مسامعه.
بين زمن وزمن مختلف
جرت العادة أن يتابع من يكتبون قائلين إن العيد قديماً كان بسيطاً، ويتحدثون عن ألعابهم في الحارات، ولو فكرنا قليلاً لوجدنا أن لكلّ جيل ظروفه ومعطياته البيئية، فألعابنا من مطارداتٍ وقفزٍ و"نطنطة" هي حالة بدائية برأي جيل اليوم الذي صار يلعب بأجهزة حديثة متطورة.. وأرجوحاتنا وغيرها من وسائل لعب كانت تنفذ بطرق بدائية هي الأخرى، صارت الملاهي بديلاً عنها، وبات أطفال اليوم لا يفارقونها في أعيادهم ويفرحون بها أيّما فرح.في العيد قديماً وفي غير العيد كان الناس يتزاورون كثيراً، لكنْ لو تأملنا نمط حياة الناس وقتها لاكتشفنا مدى المساحات الزمنية المتوفرة لديهم، أما في حياتنا الاستهلاكية التي نلهث بها خلف الدقائق والثواني ولا ندركها، فقد حلّت رسائل الهاتف المتحرك ثم الـ"واتس أب" والـ"ماسنجر" مكانَ الزيارات والاتصالات. ولم يكن ذلك ليحدث لولا ضيق الوقت وتراتب الأمور في سلّم الأولويات.
كيف كان العيد أيامكم؟!
في العيد قديماً لم تكن الوسائل الصوتية والمرئية متوفرة عند كل الناس، لذلك كانوا يغنون لأطفالهم أغاني العيد، وأطفالهم يحفظون ويغنون مع أترابهم في الشارع، أما اليوم فصارت الفضائيات تغني بدلاً عن الناس، ثم استبدلت الكاسيتات بالأقراص المدمجة، وظهر الدي في دي وصار كل شيء "أون لاين".... ومن يمتلكون كل هذه التقنيات لن يزعجوا حناجرهم بالغناء..ذات يومٍ غابر كنا نستمع ليلة العيد إلى أم كلثوم وهي تصدح "الليلة عيد.. عالدنيا سعيد".. واليوم صاروا يستمعون إلى أغنيات تناسب أذواقهم، ولعلنا لو استمعنا بمزاج، ودخلنا في جماليات الإيقاع لعشنا مع الجيل الحالي بعضاً من طقوس فرحه.
لندع الأطفال ومن هم أكبر منهم يمارسون الطريقة التي يريدون في الفرح، لهم زمنهم ووسائلهم، ولنا زمننا وطرائقنا.. وكلّ شيء في وقته جميل.
لنبتعد عن إحباطهم بحكاياتنا عن جمالنا وروائعنا في أعيادنا قديماً، ورداءة أحوالهم حالياً.. حتى في التلفزيونات تتحرك الكاميرات كلّ عيد في الأسواق تبحث عن أكلات العيد.. ويتكرّر لجيل الآباء والأجداد السؤال الذي صار مملاً: كيف كان العيد أيامكم؟ وتأتي الإجابات لتجعل الأشياء أجمل في زمن المتحدث.. وما بعده لا شيء.
"جتَّ العسكر .. قامت تسكرْ"
ذات عيد غبر كنتُ في أبها جنوبَ السعودية، ولأن الصحف تصدر من دون توقف، كان لابدّ من يوم عمل كامل في صحيفة "الوطن"، وبرغم الإرهاق أخذتُ أسرتي مساءً إلى مجمع كبير يتضمن ملاهيَ للأطفال، واشتهيتُ العودة إلى لحظةٍ طفولية فأصعد مع "بِشْر" في إحدى الألعاب وأتشقلب معه قليلاً، وما إن اقتربتُ حتى نهرني العامل قائلاً بعربية مكسرة: "هذا حق بزورة، مو حق إنتَ". أي إن اللعبة للأطفال وليست لك.. فخضعتُ لأمره، وتركتُ طفلي يلعب مع أقرانه، وشرعتُ أتذكر "اللَّيْلي" الخشبي الذي انقرض لتظهر الأرجوحات والألعاب الحديثة وهي تتحرك في الهواء طالعةً نازلة.. وأتذكر في "الرقة" كيف كان جارنا صاحب ما يسمى بـ"اللَّيلي" ينصب أخشابه داخل قوس "السبع بحرات" المعدني الذي كان موجوداً حينها، فتنساب إلى جيوبه أجزاء من "عيديات" أطفال الحارة، ويحرّك "اللَّيلي" بركّابه وينشد: "يا حج محمد.." وغيرها من أغنيات مثل "بكرة العيد ونعيد" التي يذبحون بها ابنة سعيّد الشقراء المسكينة من دون ذنب جنته سوى أن أبيها لا يمتلك بقرة!! ويا لها من احتفالية دموية في العيد..ما علينا.. أطرف أغنيات المرجوحة أو "الليلي" أغنية انتهاء الوقت، وحين يبدأ الفتى الذي يحرك المرجوحة بأغنية "جَتَّ العسكرْ.. قامتْ تسْكَرْ.." أي أتى العساكر وبدؤوا يسكرون.. فمعنى ذلك أن الوقت انتهى، والدور صار لغيرنا فالازدحام شديد.. ومن المحال أن أتخيّل جيلَ اليوم قادراً على أن يتأقلم مع تلك الظروف، أو يترك المسألة تمرّ بسلام من دون أن يسألَ عن سبب "سُكْر العسكر" الذي مازال مبهماً.. بحيث لم أجد سوى القافية رابطاً بين شطري مطلع الأهزوجة.. "جتَّ العسكر .. قامت تسكرْ"..
بوركت ابو بشر الغالي وكل عام وانت ومن تحب بالف خير
ردحذفلقدذهبت بنا عبر الزمن الجميل وهيضت المواجع وعدت بالذكريات الجميلة ودوار النعيم
لله درك مااروعك
الزمن الجميل، لعل زمننا هذا سيكون الجميل بالنسبة إلى الآتي، ما دام العسكر يعسكرون فوق حياتنا وقلوبنا وطموحاتنا. جميل ذاك التداعي، ولعلك دون أن تتقصد انتهت بك الحال إلى تلك الأغنية التي تخصهم. ندعو الله أن يسكروا، ويتلذذوا لكن في مكان تشط به المسافات عنا..
ردحذف