عصام حقي، شيء من الرمضانيات انهيار القِلاع |
عصام حقي
مطرقاً رأيته، يمشي بخطوات وئيدة، يرهقه حَرُّ تمّوز في بيروت، ورطوبة طقسها، وتثقل كاهله أزيد من ستّين عبئاً يحملها على منكبيه المرهقين، وتحت إبطه محفظته التي مافارقت تلك الإبط مذ جامعة دمشق ...
* * *
سعيد الأفغاني مكتبة متنقلة تخزن كنوز العلم والمعرفة وتحرس اللّغة العربيّة، وتذود عنها من تقلّب الزمن والركّة وعبث العابثين ...
لمحته من بعيد ...
عرفته، وهل يخفى القمر ...
قمر لغتنا، وأحد أهمّ حُماتها في القرن العشرين المنصرم؟!
عرفت أستاذي الجليل (سعيد الأفغاني)، فتقدّمت منه وجِلاً كتلميذ صغير يدنو من معلّمه ..
هيبته مازالت هي هي ... بل ازداد وقاراً وهيبة، لمحني أتقدّم باتّجاهه، تفحّصني متثبّتاً من شخصي، وابتسم ابتسامته الخفيفة التي نمّتْ عن اطمئنانه ومعرفته لي.
حيّيته.. ردّ تحيتي ذاكراً بصوته الخافت كنيتي، وهي بعض ما علق بذهنه من اسمي ..
فشعرت معها بنسمة باردة تنعش روحي، وتعيد الطمأنينة لها، وكأنّها يد أبٍ تمسّد رأس ابنه الخائف ..
بادرني بأسئلة المجاملة التقليدية في مثل هذه المواقف......* * *
حيّيته.. ردّ تحيتي ذاكراً بصوته الخافت كنيتي، وهي بعض ما علق بذهنه من اسمي ..
فشعرت معها بنسمة باردة تنعش روحي، وتعيد الطمأنينة لها، وكأنّها يد أبٍ تمسّد رأس ابنه الخائف ..
بادرني بأسئلة المجاملة التقليدية في مثل هذه المواقف......* * *
كنّا واقفين بظلال جسر في ذلك الشارع البيروتي المعروف بالخندق (الغميق) والسعادة تغمرني، وأنا أصغي إليه وهو يسرد بإيجاز قصّتة بعد التقاعد، والتي تجسّد البلاء المسرع نحو وطننا ....
كان يتحدّث بنبرته الهادئة ذاتها، والتي حملتني خلفاً إلى الحصّة الأولى في المدرّج الأول بكليّة الآداب، فرحت أستعيده، بوقفته المهيبة، وهدوء شرحه، وعمق علمه وغزارته .....* * *
أجل إنّه الأستاذ الكبير سعيد الأفغانيّ النحويّ العلاّمة، الفقيه الفهّامة، المؤلّف والمحقّق وأحد أهمّ مؤسّسي كليّة الآداب في جامعة دمشق ثم عميدها لاحقاً، ومؤسّس قسم الّلغة العربيّة فيها ثم رئيسه لاحقاً .. وأحد أعضاء مجمع اللّغة العربيّة في القاهرة، ومجمع الّلغة العربيّة في بغداد.* * *
في اليوم الأوّل من العام 1969 بلغ الستين، وأُحيل إلى التقاعد، لم يعملوا على استبقائه، وبدوره رفض استجداء البقاء، مع قانونيّة استمراره خمس سنوات إضافيّة، ولكنّه مخطّط آخر..... يهدف إلى انهيار القلاع ...!* * *
لم يكن في العالم جامعة تُعنى بالّلغة العربيّة أو نحوها أو فقهها إلا كانت تتمنّى أن يكون الأفغانيّ في عداد طاقمها، باستثناء جامعته التي قلب ولاتها الجدد ظهر المجنّ له، ولجيل الأساطين معه كاملاً.* * *
حمل يومئذٍ محفظته الصغيرة، وغادر سورية ميمّماً وجهه صوب لبنان .. ووقّع عقداً مع الجامعة اللبنانية، وعمل فيها، وألف كتابه (الموجز في النحو) ودرّسه لطلابه هناك. وظلّ يعمل أستاذاً مدّة خمسة عشر عاماً (بعد التقاعد...!) في جامعات عربية أخرى، قبل أن يعود إلى دمشق، ويمضي فيها بقيّة عمره بين الكتب والقراءة والتأليف.
تُوفّي -رحمه الله- في مكّة المكرّمة العام سبعة وتسعين وتسعمائة وألف، عن ثمانية وثمانين عاماً.
ترك الأفغاني الكثير من المؤلفات ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- في أصول النحو.
- أسواق العرب في الجاهلية.
- عائشة والسياسة.
- مذكّرات في قواعد الّلغة العربيّة.
كما حقّق العديد من الكتب ونذكر منها:
- لُمع الأدلّة للأنباري وسير أعلام النبلاء بجزأين، وغيرهما كثير ..
عُرف - رحمه الله - بحزمه وشدّته، وبالجرأة في قول الحقّ، والاعتداد بالنفس، والاستقامة والعفّة والوفاء والصراحة ...
وتلك هي بعض الصفات التي ربّما جعلتهم يرفضون بقاءه في داره دمشق، وبأحضان أمّه جامعة دمشق رحمة الله عليه...* * *
في بيروت، وأنا أودّعه، قال لي جملةً لم أدرك يومئذٍ مغزاها بدقّة:
(احموا اللغة يابني فهي التي ستحميكم يوماً ممّا يتربّص بكم ..!).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.