أمان السيد، نوافذ بحرية: سيكند هاند |
أمان السيد *
سيكند هاند، أو اليد الثانية، محلات حضورها كبير في أستراليا، ولعله ينافس في رخص الثمن المصنوعات الصينية المعروفة بذلك. في تلك المحلات بضائع مختلفة تبدأ من دبوس الشعر، لتنتهي بأثاث المطبخ، وكل ما لا يخطر لك على بال، أما أن تنسب فئة من البشر إلى ذاك التصنيف، فهنا رؤية خاصة، ومن حق من يعترض أن يدحضها، ولكن بالحجج المقنعة! كيف لإنسان أن يُحشر مع تلك المعروضات، وهو المسيّد على الأرض، وخليفة الله في دنياه، هي بالطبع نقيصة، تعود في مجملها إلى المنافقة، والمراءاة، وارتضاء المرء أن يكون سلعة يُسوّق لها تحت شكل أو آخر.
الانفتاح والتمازج الإنسانيّ الكثيف
إلى دول الانفتاح المطلق وصل الإنسان البسيط من بلدة قد تكون نائية، أو قرية ما يزال يجلّلها الوسن، أو من مدينة عرفت انفتاحا لكنه ظل مقيّدا بالعادات والتقاليد، وقبلها الأعراف الدينية. بعض من البشر رجلا كان أو امرأة تأتيه الصدمة هنا، وما أكثر من عاش مع أفكاره وما جلبه معه سدّا منيعا، حتى وإن مرت به سنوات وسنوات، غير أن المستغرب أن الانفتاح على المحايلة، وتبريرها كان أسرع، ومن أوسع الأبواب، وأقصاها. هنا حيث يعيش بعض البشر بشخصيتين مزدوجتين، هو أمر تطبعوا به من كثرة المعاشرة، وصار من غير الطبيعي أن يشذّ عن تلك القاعدة فئة، استوعبت ذلك الانفتاح والتمازج الإنسانيّ الكثيف، ونهلت منه، ثم مزجته مع ما تثقفت به، وتربت عليه في نفسها، ثم خرجت بثوب يليق الخروج به في المستوطن الجديد.أشعر بأن قارئي للوهلة الأولى قد اعتقد أن المقصود بالعنوان، ما استُعمل من البشر للمرة الثانية، وأنا حقا أريد أن أنحى هذا المنحى الذي لا يخرج عما قدمت له!
ممارسة الحرية حين تسنح الفرص، وحتى أقصاها، وأول المبتدأ يكون بما تميل إليه نفس المرء، ولا سيما مما ورد تحت باب المباح، والمحلّل، وإن كانت لي رؤية أخرى في المحلل والمحرّم لا تخرج مطلقا عما ورد في كتاب الله، بل هي توسّع مظلّته لأستفيء سياق آية كريمة في ذلك دون اقتطاع، أو اجتزاء، لا كما يحلو لبعض الأنفس الاجتزاء، والتغريد خارج السّرب بما يوافق ذاك الهوى.
نوع من التّسهيل
قانون البلاد هنا يصرّ الفردانية في الزواج، فلا يسمح بالتّعددية، ومثنى، وثلاث، ورباع والتي هي الأجنحة المرفرفة في عقل من ينطلق من ذكورته، أمر يمكن أن يصير واقعا، وببساطة، ولكن بالاحتيال على القانون. فكم من نكاح يتخذ شكلا أو آخر، فتتعدد أوراق اللعب في يد السلطان، ويكتنز أكثر من جارية برغبتها، وهنا يستطيع المُريد حصد أكثر من امرأة في الوقت نفسه تحت توقيع المزوّج الذي يطبق الشرع، شرع الدين، لا شريعة الدولة، وكم من رجل احتفظ بالأولى وقد طلقها رسميا، ليأتزر بالثانية حين يستقدمها من الخارج، ويسجلها عليه، وكم من امرأة توافق على أن تكون رقما يتكرر في عصمة زوج يرفدها بمبلغ لا يذكر من المال، فتفوز برضا القانون، ورضا الغايات التي تدركها تماما. مَن حولها لا اعتراض لهم على ذلك الارتباط بما أنه شرعي، وإن احتاجت إلى تبريره أمام جهة مسؤولة، فالجواب حاضر في دولة تؤمن بالعلاقات المفتوحة. هو، أو هي "البوي فريند، أو الجيرل فريند" الصّاحب، أوالصّاحبة، ولن يقف في الدرب من الأشواك شوك. ولعلّ السّائل يستفسر لمَ تلك الطرق، ليصل الجواب سريعا: الحصول على معونة الدولة، إعانة مالية، نوع من التّسهيل، تخصّ به اللواتي يعشن وحدهن، ويأتي في الرأس الـ "سينغل مام"، أو وضع "الأم الوحيدة" التي لها حق كبير من رعاية دولة تهتم بمواطنيها، وتحرص على حياة كريمة لهم.
عدّة مودرن
أرفد هنا ما أذهب إليه بردّ صبية ثلاثينية، وقد تكررت زواجاتها سرّا، وفي كل مرة تخرج بطفل، أو أكثر، فقد استفسرت منها عن تقيّدها بالعدة الشرعية، وأذكر أنها ابتسمت، وهي تجيبني قائلة: "إنها عدّة مودرن يا عزيزتي!". صدقت، فلا بد من عدّة مودرن لتناسب الانفتاح في هذه الأرض، تسمح للمرأة بألا تعتدّ، ولا بأس أن يكون هناك خاطب في الانتظار!لا يُستعاب الحلال لمن يبحثون عنه، ولكن ليس بتلك السّبل الملتوية، والتي تربط كل شيء بالمنفعة والمصلحة، المادة التي طغت على كل شيء هنا، وأفنيت في سبيلها أرواح صارت تدور بالبعض مثل الثيران في السواقي، فلا هي تهدّئ، ولا هي توقظ حين تتوجّب اليقظة، ومن قنع سعد، ولكن اللاهث وراء المتعة سيبقى ذاك الغائب المغيب أبدا. في أوطاننا الأمّ ما يزال الحلال مقيدا بطقوس وأعراف وتقوّلات اجتماعية، أما هنا، فقد غضّ الطرف، ورفع القلم عن الكثير، وتبدّلت المفاهيم حول كثير مما تُؤبّط في حقيبة الرحيل.
تحليل الرياء والكذب
ومن وجوه تلك الممارسات الغريبة في الكذب والنفاق للحصول على رغيبة من الرغائب المادية حادثة كنت شاهدا عليها، حيث جلست أنتظر دوري في مكان يختص بالمطالبة بالسكن الحكومي، وقد كانت المرأة التي تلاصقني في الجلوس امرأة حييّة، أما الرجل المقابل لنا، فقد كان لا يرعوي عن الحديث بصوت مرتفع غير آبه بمن تنحشر بهم القاعة، يناوشها، ويحاورها ويحتال ليعرف إن كانت قد سجّلت على "سكن حكومي"، أو إن كانت ستستلمه قريبا. الرجل يريد الزواج بامرأة لديها سكن حكومي، حتى وإن كانت تجرجر وراءها خمسة أطفال، وفي ذلك يحلّل كلّ الرياء والكذب. كان الرجل حينذاك يوقّع ألحان الحنان الأبوي، فهو سيعين المرأة في أطفالها، وهو سيؤنس وحدتها، كل ذلك، والحديث بدا لي أقل من عادي، ومتكرّرا في مثل تلك الأمكنة التي أشعرتني بأنها من دور اصطياد المعروضات في السيكند هاند. كانت مصادفة جيدة لمثلي أن أتعرف وجها من وجوه التّعامل الاجتماعي في الوطن الجديد، وألتقط ما ألتقط. للعلم، والله يشهد، فقد تحاملت المرأة صامدة لفترة أمام مناوراته الذكريّة المفتعلة، تصدّه تارة بأنها لا ترغب بالزواج، وتارة بأنّ لها أهلا معينين على الشدائد، إلى أن سقطت في الفخّ، وانتهت المحادثة بتبادل أرقام الهاتفين. لكن من إن خرجت المرأة حتى تمنيت أن ألحق بها، لأخبرها بما استباحه الرجل من وضاعة السلوك، فجعلني أتخيّل قيمة الحنان الأبوي الذي سيهبه الرجل لأطفال المرأة متى تحوّل أبا بديلا لهم. هدفه الأول والأخير سكنها الحكومي الرخيص ليس غير، وأن يعيش معتاشا عليها وعلى أطفالها بما تهبهم الدولة من المساعدات البسيطة، تقوم على أمره امرأة مقابل ما يهبها من معسول الكلام. ظل صراخ الرجل يتعالى على الموظفين أمام النافذة الواصلة بينهم، وقد ملأه الغيظ، وهو يفتن على أحد جيرانه الذي استطاع بأسلوب ما أن يكتري سكنا حكوميّا، رغم أنه مالك لبيت خاصّ!تشبث ظاهري بالقيم
العلاقات المفتوحة هنا، ليست مؤرّقا لمن لا يخضعون إلى معتقد ديني يحلل أو يحرم، لذا سيبقى الحديث قائما عن أولئك الذين يقبلون أن يكونوا سلعا تباع وتشترى، بما يصدر عنهم من ممارسات، هنا حيث تغاير النظرة إلى الجسد ما تداولناه معتقدا وإرثا، إلا عند فئة من الخلق ما تزال تتشبّث بقيم ظاهريا، رغم اختلالها في نفوسهم، فيسود من السلوك التفاف وتحايل يدفعان إلى الدهشة والاستنكار. الـتفكير الـ "أوبن مايد"، ما يزال يستنكره في عائلاتهم كثير من العرب، والمسلمين بالتحديد، لكن هناك من رضخ راغبا مستسلما، وغير راغب، ومتجاهلا، وغير متجاهل، ومنهم من وضع للعلاقة إطارا مشرعنًا هو أبعد ما يكون عن الشرع، واقتنع بما سنّ ونهج، والغربيّ يرى أن أبناءه بحاجة إلى أطباء نفسيين حين تفتقر حياتهم إلى علاقات جنسية مع الطرف الآخر، لا يمنعه عن ذلك أنه ما يزال حدثا، والمثلية قد أقرت رسميا، والعرب، والمسلمون بين هذا وذاك يتلاطمون، فالحياة في الغرب لا بد وأن تزعزع في الشخص أركانه المتوارثة، ولكن الأدهى حين نعرف الخطأ ونمارسه بإرادتنا، فأن تكون المرأة تعدادا رقميّا سريّا في حياة رجل ما، لا لشيء إلا لمتعة عابرة مصحوبة بدولارات معدودة تحافظ من خلاله على مساعدة "السنتر لينك" أو المركز الحكومي المخوّل بمساعدة المواطنين، فيحمل مئات من الاستفسارات، وعلامات الترقيم.سوق تعلن بضائعها
فما الدافع إلى تلك الدونية، وأن نكون اليد الثانية، ما دمنا نستطيع العمل بكرامة، ومنهم من يعمل حقا، ولكن لديهم إيمان ويقين أن الاحتفاظ بتلك المساعدة حق شرعي، في حين أن ممارساتهم تمنعها عمن يستحقونها من كبار السن، أو الذين اقتربوا من سن التقاعد، أو المتضررين حقا، أومن قضوا دهرا في كدح ونصب، وما الدافع لاكتراء سكن حكومي تحت سلسلة من نفاق واحتيالات لا تنتهي، والآلاف من المحتاجين الحقيقين ينتظرون أن يكون لهم مأوى يقدرون على دفع أجرته؟!أين من أولئك مضمون قوله سبحانه وتعالى في سورة النساء "يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا" الآية 108، وكأني بـ"المهاتما غاندي" يسبح في ملكوت الله حين قال: "النفوس العظيمة لا تسمح لك أن تعمل في السرّ شيئا لا تجرؤ على عمله في الجهر". بعض من الممارسات البشرية يكون رفعًا لها تنسيبها إلى السيكند هاند، فعلى الأقل هي سوق تعلن بضائعها أن آخرين مروا بها مرور اليد الثانية، بل أكثر، غير أنها لا تلج إلى زبائنها خفاء، ولا تحايلا، وتفي احتياجاتهم بوجه مكشوف صريح، فمن وافق نال، ومن لم تعجبه أعرض صفحا، لكن من يلفّ ويدور على امرأة وأكثر في الوقت نفسه، ومن ترخّص نفسها وهي مدركة لوضعها في ارتباط وهميّ، محلل كما يرتئيه من يماشونه، فلا نسيء الوصف أنه لا يتجاوز أن يكون سلعة تتداولها الأيدي للخراب.
خراب النفوس ذاك فظيع فظاعة التعوّد، واستمراء اللامبالاة، واللاكتراث!
* كاتبة سورية أسترالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.